بَناتُ الْمَلِكِ وَبُذورُ الأزهار -
كان يا ما كان، في قَديمِ الزَّمانِ، مَلِكٌ عَظيمُ الشَّأْنِ، لَهُ ثلاثُ بَناتٍ. عِنْدَما هَرِمَ الْمَلِكُ
وَشاخَ أَرادَ أَنْ يَخْتارَ مِنْ بَناتِهِ الثَّلاثِ مَنْ تَرِثُهُ وَتحكم الْبِلادَ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَكَّرَ الْمَلِكُ
طَويلًا، أَنَّهُ اختار مَنْ مِنْ بَناتِهِ هي الانسب لِلْجُلوسِ عَلى كُرْسِيِّ الْعَرْشِ؛ وَذلِكَ
لأن بَناتِهِ الثَّلاثَ كُنَّ عَلى دَرَجَةٍ عالِيَةٍ جِدّا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّجاعَةِ. اِسْتَدْعى الْمَلِكُ
مُسْتَشارَتَهُ الْخاصَّةَ لِيُشاوِرَها في الأمر، وَيَصِلَ مَعَها إِلى حَلٍّ لِمُشْكِلَتِهِ. في غُرْفَةِ
الْجَلَساتِ اسْتَمَرَّتْ جَلْسَةُ الْمَلِكِ مَعَ الْمُسْتَشارَةِ زُهاءَ السّاعَةِ، وَفي نِهايَتِها خَرَجَ
الْمَلِكُ راضِيًا وَمُبْتَسِمًا. في صَباحِ الْيَوْمِ التّالي اسْتَدْعى الْمَلِكُ بَناتِهِ الثَّلاثَ إِلى مَكْتَبِهِ.
عِنْدَما دَخَلَتِ الْبَناتُ الثَّلاثُ وَجَلَسْنَ عَلى الْمَقاعِدِ الْوَثيرَةِ، قَدَّمَ الْمَلِكُ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْ
بَناتِهِ كيسًا صَغيرًا مَليئًا بِبُذورِ الأزهارِ، ثُمَّ قالَ:" بَناتي العَزيزاتِ، غَدًا سَأَبْدَأُ جَوْلَةً في
الْمَمْلَكَةِ، وَسَتَكونُ هذِهِ الْجَوْلَةُ طَويلَةً تَسْتَمِرُّ سَنَةً أَوْ سَنَتَان عَلَى اڑ الأقل. عِنْدَما أَعودُ،
أُريدُ مِنْ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْكُنَّ أَنْ تُعيدَ إِلَيَّ هذِهِ الْبُذورَ. هذِهِ الْفَتْرَةُ سَتَكونُ بِمَثابَةِ اخْتِبارٍ
لَكُنَّ: مَنْ حفظت الْبُذورَ عَلى أَفْضَلِ وَجْهٍ سَوْفَ تَكونُ هي وَريثَتي، وَسَتْحُكُمُ الْبِلادَ مِنْ
بَعْدي".
بَعْدَ أَنْ غادَرَ الْمَلِكُ الْقَصْرَ مُبْتَدِئًا جَوْلَتَهُ، فَكَّرَتِ الْبِنْتُ الْكُبْرى: "كَيْفَ أُحافِظُ عَلى
الْبُذورِ، بِحَيْثُ أُعيدُها إِلى والِدي الْمَلِكِ كاملة كَما أَخَذْتُها مِنْهُ؟" وَضَعَتِ الْبِنْتُ
الْكُبْرى الْبُذورَ في الْخَزْنَةِ الَّتي في غُرْفَتِها، واحْتَفَظَتْ بِالْمِفْتاحِ في مَكانٍ سِرِّيٍّ جِدّا.
أَمّا الْبِنْتُ الْوُسْطى فَفَكَّرَتْ:" إِذا احْتَفَظْتُ بِالْبُذورِ مُدَّةَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَين حَتّى عَوْدَةِ والِدي
مِنْ جَوْلَتِهِ، فَسَتَتَعَفَّنُ هذِهِ الْبُذورُ وَتُسَوِّسُ". أَخَذَتِ الْبِنْتُ الْوُسْطَى الْبُذورَ إِلى السّوقِ
وَباعَتْها، وَاحْتَفَظَتْ بِثَمَنِها قائِلَةً لِنَفْسِها: "عِنْدَما يَعودُ والِدي سَأَرْجِعُ إِلى السّوقِ
وَأَشْتَري بُذورًا مِثْلَها، وَلكِنْ جَديدَةً وَطازَجَةً أُعيدُها إِلى والِدي"، وَهكَذا فَعَلَتْ. أَمّا
الْبِنْتُ الصُّغْرى، فَقَدْ خَرَجَتْ إِلى الْحَديقَةِ الَّتي خَلْفَ الْقَصْرِ وَالْبُذورُ بِيَدِها، وَبِحَرَكَةٍ
دائِرِيَّةٍ واسِعَةٍ بَذَرَتْها في الْهَواءِ في جَميعِ الْجِهاتِ.
بَعْدَ سَنَة عادَ الْمَلِكُ مِنْ جَوْلَتِهِ إِلى الْقَصْرِ. أَخْرَجَتِ الْبِنْتُ الْكُبْرى الْبُذورَ مِنْ
خَزْنَتِها وَأَعادَتْها إِلى والِدِها. سَأَلَها الْمَلِكُ مُسْتَغْرِبًا: "ما هذا؟ هذِهِ لَيْسَتِ الْبُذورَ الَّتي
أَعْطَيْتُكِ إِيّاها! هذِهِ الْبُذورُ مُتَعَفِّنَةٌ جِدّا وَمُتَسَوِّسَةٌ...." أَسْرَعَتِ الْبِنْتُ الْوُسْطى إِلى
السّوقِ حَيْثُ اشْتَرَتْ بُذورًا كَتِلْكَ الَّتي باعَتْها، وَلكِنْ جَديدَةً، وَقَدَّمَتْها إِلى والِدِها الَّذي
سَأَلَها مُسْتَغْرِبًا: "ما هذا؟ هذِهِ لَيْسَتِ الْبُذورَ الَّتي أَعْطَيْتُكِ إِيّاها! صَحيحٌ أَنَّها لَيْسَتْ
مُتَعَفِّنَةً وَمُتَسَوِّسَةً مِثْلَ بُذورِ أُخْتِكِ، إِ أَنَّها لَيْسَتِ الْبُذورَ الَّتي أَعْطَيْتُكِ إِيّاها".
خابَ رَجاءُ الْمَلِكِ مِنِ ابْنَتَيْهِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ مِنِ ابْنَتِهِ الصُّغْرى سائِلًا: "وَأَنْتِ، أَيْنَ
بُذورُكِ؟". أَخَذَتِ الْبِنْتُ بِيَدِ أَبيها وَخَرَجَتْ بِهِ إِلى الْحَديقَةِ الَّتي خَلْفَ الْقَصْرِ، حَيْثُ
كانَتِ الأزهارُ يانِعَةً مُتَفَتِّحَةً بِأَلْوانِها الْمُتَنَوِّعَةِ الزّاهِيَةِ، وَقالَتْ: "هذِهِ هي الْبُذورُ الَّتي
أَعْطَيْتَني إِيّاها، عِنْدَما يَحينُ الْوَقْتُ سَأَجْمَعُ مِنَ الازهارِ بُذورَها وَعِنْدَها سَأُعيدُها
إِلَيْكَ". اِحْتَضَنَ الْمَلِكُ بَناتِهِ الثَّلاثَ وَقالَ لَهُنَّ:" أَنا أُحِبُّ كُلّا مِنْكُنَّ حُبّا جَمّا، وَلكِنْ
أَنْتِ، يا بُنَيَّتي الْبِكْرَ، عَلَيْكِ أَنْ تَتَعَلَّمي كَيْفَ لا تَخْزِني وَ تَحتَْفِظي بما تَمْتَلِكينَ. وَأَنْتِ،
يا أَوْسَطَ بَناتي، فَقَدْ وَهَبَكِ اللّهُ عَقْلًا وَذَكاءً خارِقًا، وَلكِنْ عَلَيْكِ أَنْ تَتَعَلَّمي أَن تَعيشي
دائِمًا مِنْ خِلالِ إِجْراءِ الْحِساباتِ. فَقَطْ مَنْ تَفْتَحُ يَدَها وَقَلْبَها، وَتَتَحَلّى بِالسَّخاءِ
وَالْاِبْتِكارِ يُمْكِنُها أَنْ تَكونَ وَريثَتي".