أحبتى في اللـه: هذا هو لقاءنا التاسع مع رحلة في رحاب الدار الآخرة وها نحن الآن على موعد مع حديث مروع مهيب يحدث حين وقوع الساعة. قال اللـه تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ 0وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70]. فبعد أن تكلمنا آنفا عن الصور، ونفخة الفزع، والصعق بقي لنا أن نتكلم عن نفخة البعث؟ وكما تعودنا أيها الأحبة الكرام حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً سوف ينتظم حديثى في هذا الموضوع الهام في العناصر التالية: أولاً: نفخة البعث ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة ثالثاً: من مات على شىء بعث عليه: لقد انتهينا في اللقاء الماضي عند هذا المشهد الرهيب في وسط هذا الكون المذهل المهيــب حينما ينطق صوت جليل قريب يسأل صاحب الصوت ويجيب فلا يومها من سائل غيره ولا مجيب. ويقول بعد فناء كل الخلق قاطبـة أين الملوك؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم ينادى جل جلاله بصوته سبحانه ويقول: لمن الملك اليوم؟! فلا يجيب على اللـه أحد لأنه لا أحد، يجيب على ذاته جل في علاه ويقول :لله الواحد القهار. مات كل مخلوق ولم يبق إلا اللـه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان آخراً كما كان أولاً: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هو الأول فلا شىء قبله وهو الآخر فلا شىء بعده وهو الظاهر فلا شىء فوقه وهو الباطن فلا شيء دونه وهو السميع العليم. أولاً: نفخة البعث: واللـه لا يعلمها إلا من وسع علمُه كلَ شيء؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: ((بين النفختين أربعون)) قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال أبو هريرة: أبيتُ قالوا: يا أبا هريرة أربعون شهراً؟ قال: أبيـت قالـوا: يا أبـا هريـرة أربعون سنة؟ قال: أبيت([1]). ومعنى قوله أبيت أي: أبيت أن أسأل رسول عن ذلك فعلمها عند اللـه. بعد أربعين إذا أراد اللـه أن يحى ويبعث خلقه أنزل من السماء ماءً فتنبت به الأجسام في القبور تحت باطن الأرض كما ينبت البقل. ففي صحيح مسلم أنه قال: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب([2]) منه خلق ابن آدم ومنه يركب))([3]) فإذا ما أراد اللـه أن يبعث الخلائق أتى بهذه العظمة الدقيقة وأتى بجسد صاحبها. ماتفرق منه في البحار.. وما تفرق منه في التراب.. وما ذهب منه إلى بطون الحيوانات والسباع.. يأتي به اللـه جل وعلا ويركب اللـه جل وعلا جسد صاحبها واللـه يعلم عظمة كل إنسان خلقه من لدن آدم إلى يوم القيامة فتكتمل الأجساد في القبور وحينئذ يأمر إسرافيل بعد مايحييه أن يلتقم الصور([4]) وينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح.. أرواح المؤمنين لها نور وأرواح المشركين لها ظلمة!! فتسرى الأرواح إلى الأجساد التي اكتملت كما يسرى السم في اللديغ([5]) وحينئذ يأمر اللـه جل وعلا الأرض أن تتزلزل وأن تتشقق ليخرج منها الناس من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة. قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70]. وقال تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:51-54]. وقال تعالى : وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرض عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:41-45]. واستمع معي إلى قول اللـه عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:1-8]. تعال معي أخي في اللـه لنتجول سريعاً مع معانى هذه الآيات: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا : أي إذا حدث زلزال الأرض العظيم الذي ليس له مثيل على الإطلاق، فلفظت الأرض ما حوته من جثث الخليقة وقالت بلسان الحال: لقد أثقلتمونى كثيراً بذنوبكم ومعاصيكم فتحملت منكم الكثير، من سفك دماء، وسلب ونهب، وطغيان، وعربدة، وسرقة، وما إلى ذلك من تلكم المعاصي؟ وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا : ما الذي حول أمنها إلى اضطراب؟! ما الذي حول سكونها إلى زلزلة؟! ما الذي حدث؟! فترد الأرض عليهم وتقول: إنها أوامر اللـه... سبحـــان اللـه الأرض تتكلـــم! إنهــا إرادة اللـه!! يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا : في هذا الوقت سوف تعرف الأحداث، سوف تعرف الأخبار وذلك بأمر من اللـه رب السموات والأرض. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ : باللـه عليك عش بقلبك، وكيانك معي هـذا المشهـد الذي يخلع القلب ويزلزل الكيان. الأرض تتشقق وتتفتح القبور متناثرة هنا وهناك في شمال وجنوب وغرب وشرق، تتشقق تلكم القبور ويخرج من كل قبر عشرة أو مائه أو ألف يخرج من هنا وهنالك يخرج هذا وذاك، شَخُصَ البصر إلى اتجاه واحد لا يلتفت يميناً ولا يساراً إلى هذا الداعى - الملك الكريم - الذي جاء بأمر رب العالمين ليقود الناس جميعاً إلى أرض جديدة عفراء لم يطأها أحد من قبل بقدميه ألا وهى أرض المحشر. قال جل وعلا: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108-111]. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ لا يلتفت أحد ولا يتخلف أحد، أيتها العظام البالية أيتها العظام النخرة، يا أكفاناً خاوية ويا قلوباً خاوية ويا عيوناً سائلة ويا أبداناً فاسدة. أيها الناس جميعاً في القبور حان وقت القيام لفصل القضاء بين يدى الملك الغفور. ترى كيف يخرج الناس من قبورهم؟! يخرج الناس من القبور حفاة، عراة، غُرْلا، لا نعال في أقدامهم، لا ثياب تغطى أبدانهم. لا شىء يسترهم. غرلا: جمع أغرل والأغرل هو الصبى الصغير المولــود قبل ختانه. قال تعالى: كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلـقٍ نُّعِيدُهُ وَعْـداً عَلَينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]. يقول النبي : ((يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً)). فتعجبت عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول اللـه الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! فقال المصطفى : ((يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك))([6]). قال جل وعلا: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37]. تصور هذا المشهد يا عبد اللـه لتقف على هول وفظاعة هذا اليوم. مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا على العصاة ورب العرش غضبانا فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا إقرار من عرف الأشياء عرفانا وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا والمؤمنون بدار الخلــــد سكانا | | تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً والنار تلهب من غيظ ومن حنق اقــرأ كتابك ياعبد على مهل فلما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت نادى الجليل خذوه يا ملائكتي المشــركون غداً في النار يلتهبوا |
يا عبد اللـه دثر نفسك في هذا اليوم برداء طيب كريم ألا وهو رداء العمل الصالح.. دثر جسدك في هذا اليوم برداء العمل الصالح.. رداء الطيبات الصالحات الباقيات عند رب الأرض والسموات. ذلك أن العمل الصالح هو القائد الوحيد إلى جنان العزيز الحميد. ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة: ها هو أحد الجاحدين يأتي إلى النبي بعظم فيفته بين يديه ويذره في الهواء ويقول للنبي في سخرية واستهزاء: يا محمد أتزعم أن ربك يبعث هذا بعد ما صار رميماً؟!! فقال له النبي : ((نعم يميتك ثم يحيك ثم يدخلك النار)). فنزل قول اللـه جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:77-83]. يقول المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحــمد في مسنده بسند حسن من حديث بسر بن جحاش القرشي أن الحبيب النبي بصق يوماً على كفه ووضع المصطفى أصبعه عليها ثم قال: قال اللـه تعالى: ((يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديـن وللأرض منـك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغــت الروح التراقي قلت: أتصـــدق، وَأّنَّى أوان الصــدقة))([7]). قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]. بلى وعزته وجلاله إنه لقادر على أن يبعث الموتى. وفى الصحيحين من حديث أبي هريـــرة أن النبي قــال: قـال اللـه تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ اللـه ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد))([8]). قال تعالى: زَعَـمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَن يُبعَثُوا قُل بَلَى وَرَبَّى لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَئونَّ بِمَا عَمِلتُــم [التغابن:7]. أي سيبعثهم اللـه وسوف يقرأون في الصحائف التى لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ولا تظلم مثقال ذرة من أعمالهم التى اقترفوها. فرد الكفار المعاندون المكابرون وقالوا كما جاء في كتاب اللـه: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا [الإسراء:49-52]. وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((كان رجل يسرف على نفسه فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: يا بنى إذا أنا مت فحرقوني فإذا صرت فحماً فاسحقوني فإذا كان يوم ريح عاصف فذروني - وفي لفظ فذروا نصفي في البر ونصفي في البحر - فلإن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحداً من العالمين)). وأخذ هذا الرجل العهود والمواثيق على أولاده أن يحرقوه وأن يسحقوه وأن ينثروه في الريح في البر والبحر فلما مات الرجل فعلوا به ذلك. يقول المصطفى : ((فأمر اللـه البر فجمع ما فيه وأمر اللـه البحر فجمع ما فيه وقال: الملك جل جلاله لهذا الرجل كن، فإذا هو رجل قائم بين يديه سبحانه ثم قال: عبدي ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك يا رب وأنت تعلم. فغفر اللـه له))([9]). وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي اللـه عنه قال: سمعت النبي يقول: قال اللـه: ((يا ابن آدم إنـك ما دعـوتني ورجـوتني غفرت لـك علـى ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم اسـتغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقُـراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفـرة))([10]). ولقد ضرب اللـه لنا أمثلة عملية في كتابه الكريم نزفها إلى كل من يجهل حقيقة البعث وينكر هذه الحقيقة التي لا ريب فيها. قال سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:259-260]. يقول أهل التفسير: مر العـُـزير علــى قرية بيت المقدس وقد دمر القرية بختنصر وأصبحت لا مظهر فيها لأسباب الحياة فوقف العزير أمام هذه القرية متأملاً متدبراً ثم قال: كيف يحي اللـه هذه القرية بعد موتها؟!! كيف يبعث اللـه جل وعلا هؤلاء الأموات؟!! وكيف يعيد الحياة إلى هذه القرية الخاوية؟!! فأماته اللـه مائة سنة ثم بعثه، وخاطبه بواسطة الملك قال: ياعزير كم لبثت ؟!! فوجد العزير الشمس تميل إلى الغروب فظن أنها شمس اليوم الذي نام فيه فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: ياعزير لقد لبثت مائة سنة. قال: كيف ذلك؟!! انظر إلى وجهي المقارنة الثابت، والمتحرك، انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي لم يتغير لونه أو طعمه أو رائحته. فكر في هذا جيداً لتعلم أن الملك على كل شىء قدير.. انظر إلى حمارك فإذا به قد بلي وتحول إلى عظام رميم فأمر اللـه جلا وعلا أن يحيي هذا الحمار أمام عينه وبين يديه ليجعله برهاناً دامغاً للناس جميعاً على أن اللـه على كل شئ قدير، أمر اللـه تعالى الأرض أن تجمع العظام، فجاءت العظام من هنا ومن هناك بعدما صارت رميم فالتئمت واكتملت وصار كل عظم إلى جوار العظم الذي يليه فتركبت العظام وأصبح الحمار هيكلاً عظمياً فقط بين يدي العزير وعلى الفور أمر اللـه جل وعلا أن تكسى العظام باللحم وبالتوالي أمر أن يكسى اللحم بالشعر، وفي التو أمر اللـه الملك أن ينفخ الروح فنهق الحمار بإذن اللـه سبحانه الذي أحيى العظام وهي رميم!! هذه هي طلاقة القدرة التى انفرد بها الواحد الفرد الصمد!! فنظر العزير إلى هذه وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وإبراهيم الخليل عليه السلام قال: رب أرني كيف تحي الموتى بعد هلاكها؟!! قال: أولم تؤمن يا إبراهيم؟! قال: بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبى قال: يا إبراهيم خذ أربعة من الطير اذبحهن وعلمهن واخلط العظم مع اللحم مع الريش؟ وخذ كوماً من لحم وعظم وريش مخلوط وممزوج وضع كل جزء من الخليط هذا على رأس جبل. قال الحافظ ابن كثير رحمه اللـه تعالى: وجعل إبراهيم رؤوس الطيور في يديه ثم وقف إبراهيم عليه السلام ونادى على هذه الطيور فجاءت تسعى إلى إبراهيم ولم يأتِ طيراناً لينظر إبراهيم بعينه وليطمئن أنه هو بعينه الذي ذبحه وعلمه بيده حتى جاء كل طير إلى إبراهيم. يقول الحافظ: فكان إبراهيم إذا قدم رأساً لطائر ليست رأسه أبى فإذا قدم الرأس لجسدها التأم الرأس في الجسد بإذن اللـه. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، قدرة اللـه لا تحدها حدود.. قدرة اللـه ليس لها نهاية.. قدرة اللـه العقل قاصر عن إدراك حدودها. ولقد ذكر اللـه مثالاً ثالثاً سنختم به هذا العنصر الهام. وذكر اللـه أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم موتى ثلاث مائةٍ سنين وازدادو تسعة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:9-12]. اللـه أكبر... أماتهم اللـه هذه السنوات ثم بعثهم ليجعلهم آية للناس إنه جل وعلا على كل شىء قدير. أيها الأخيار: إن من كَلَّف عقله ليصل إلى حدود قدرة اللـه كالذي كلف نملة أن تنقل جبلاً من موضعه إلى موضع آخر. ياشافـي الأمراض من أرداك؟! عجزت فنون الطب من عافاك؟! من يا صحيح بالمنايا دهاك؟! بلا اصطـدام مـن يقـود خطاك؟! فهوى بها من ذا الذي أهـواك؟! ولا مرعى من ذا الذي يرعاك؟! لـدى الـولادة مـا الـذي أبكاك؟! من ياثعبان بالسموم حشاك؟! أو تحيى وهذا السم يملأ فاك؟! شهداً وقل للشهد من حلاك؟! فرثٍ ودم مــن ذا الـذي صفاك؟! | | قل للطبـيب تخطفتـه يد الردى قل للمريض نجا وعوفي بعدما قل للصحيــح مات لا من علة بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بل سائل البصير كان يحذر حفرة وسل الجنين يعيش معزولا بـلا راع وإذا الوليد بكى وأجهـش بالبكاء وإذا تــرى الثعبان ينفـث سمه وسله كيف تعيـــش ياثعبان واسأل بطون النحل كيف تقاطرت بل سـائل اللبن المصفى كـان بين |
أإله مع اللـه !! أإله مع اللـه !! أإله مع اللـه!! لا إله إلا اللـه، ولا رب غيره، ولا معبود بحق سواه وأقول قولي هذا وأستغفر اللـه لي ولكم..
([1]) رواه البخارى رقم (4814) فى التفسير سورة الزمر باب قوله : ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الارض إلا من شاء الله ، ومسلم رقم (2955) فى الفتن باب مابين النفختين ، والموطأ ( 1/ 239) فى الجنائز ، وأبو داود رقم (4743) فى السنة ، باب فى ذكر البعث والصور ، والنسائى (4/111) فى الجنائز . ([2]) عجب الذنب : عظمة دقيقة صغيرة لاتزيد عن حبة العدس توجد فى آخر السلسلة الفقرية فى كل إنسان .هذه العظمة لاتبلى أبداً ، يبلى الجسد كله وتبقى هذه العظمة الدقيقة . ([3]) رواه مسلم رقم (2955) فى الفتن ، باب مابين النفختين وهو نفس الحديث السابق إلاأن هذه الزيادة ليست فى البخارى . ([4]) الصور : البوق وهو القرن. ([5]) اللديغ : أى الذى لدغه ثعبان أو عقرب . ([6]) رواه البخارى رقم (6527) فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) فى الجنائز ، باب البعث . ([7]) أخرجه أحمد فى المسند (17769) ، وعند ابن ماجة رقم (2707) . ([8]) رواه البخارى رقم (4974) فى تفسير سورة قل هو الله أحد والنسائى (4/112) فى الجنائز ، باب أرواح المؤمنين . ([9]) رواه البخارى رقم (7508) فى التوحيد ، باب قوله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ومسلم رقم (2756) فى التوبه ، باب فى سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ، والموطأ (1/ 240) فى الجنائز ، باب جامع الجنائز ، والنسائى ( 4/113) وفى الجنائز باب أرواح المؤمنين . ([10]) رواه الترمذى رقم (3534) فى الدعوات ، باب رقم (106) ، وحسنه شيخنا الألبانى فى الصحيحة برقم (127) وهو فى صحيح الجامع رقم (4338) . |