يوم واحد قضيناه داخل وكالة خاصة للمراقبة التقنية للسيارات بالعاصمة، كان كافيا للوقوف عند حجم التزوير والتواطؤ الفاضح بين العمال وأصحاب المركبات بمختلف أنواعها بمباركة صاحب الوكالة، فمحاضر المراقبة التقنية تحولت إلى شهادات معاينة بيضاء للتهرب من الرقابة الأمنية مقابل 1000 دج، فلا فرق بين السيارة القديمة والجديدة، السليمة والخطيرة، المهم كسب رضا الزبون من خلال التغاضي عن عيوب السيارة ولو كانت مميتة، وهذا بهدف ضمان عودته مرة أخرى من أجل تحقيق أرباح خيالية تتعدى مليارا ونصف مليار شهريا للوكالة، والنتيجة 4000 قتيل سنويا في حوادث المرور.
الحديث عن تجاوزات وكالات المراقبة التقنية للسيارات في الجزائر فاق كل الحدود، فتقارير مصالح الدرك حول الكثير من محاضر المعاينة المغشوشة التي تسببت في مئات حوادث المرور المميتة هزّ وزارة النقل، التي سلطت سيف الحجاج مؤخرا على بعض الوكالات التي سحب منها الاعتماد مؤقتا، بينما سارع المدير العام للمؤسسة الوطنية للمراقبة التقنية للسيارات إلى وسائل الإعلام لتدارك الأمر، وتحدث عن إجراءات جديدة في تعزيز المراقبة التقنية للسيارات ستدخل حيز التطبيق الشهر المقبل، خاصة بعدما تبين مسؤولية وكالات المراقبة عن عدد كبير من حوادث المرور القاتلة، بسبب الغش في محاضر المعاينة التي باتت تباع بـ1000 دينار، خاصة بالنسبة لحافلات نقل المسافرين وسيارات النقل الجماعي التي يلزمها القانون بإجراء المراقبة التقنية مرتين في السنة .
وهذا ما يدفعها إلى اختيار وكالات لا تكترث بعيوب السيارة ولا بمخاطرها، فالزبون يمثل لديها 1000 دج، وهذا ما دفعنا إلى قصد أحد أكبر الوكالات الخاصة للمراقبة التقنية للسيارات في العاصمة، التي فاجأنا مسيرها بتعاونه وتفهمه لطبيعة عملنا، حيث ترك لنا حرية التصوير والحديث إلى العمال، واستقبلنا في مكتبه أين كشف لنا أمورا خطيرة جدا عن طبيعة عمل وكالات المراقبة التقنية للسيارات، التي أكد أنها مؤسسات تسير من طرف مستثمرين لا يهمهم سوى ربح المال ولو كان ذالك على حساب أمن وحياة المواطنين، في ظل غياب كامل لرقابة الجهات الوصية التي خصصت أربعة مراقبين فقط لأزيد من 350 وكالة عبر التراب الوطني.
"نوزع شهادات الموت على المواطنين برضاهم"
أكد مسير وكالة مراقبة السيارات الذي تحدث إلينا بمنتهى الصراحة، ملتمسا منا عدم الكشف عن اسمه واسم وكالته لدواع أمنية، أن التنافس غير الشريف بين أصحاب الوكالات في استقطاب أكبر عدد ممكن من الزبائن، ساهم في انتشار ظاهرة المحاضر البيضاء التي تتغاضى عن جميع العيوب، وتقدم لجميع أصحاب المركبات القديمة والجديدة، السليمة والخطيرة، بهدف الإفلات من الرقابة الأمنية، خاصة في ظل القانون الجديد الذي يعاقب المتخلفين عن الرقابة التقنية بغرامة تصل إلى خمسة ملايين سنتيم والسجن.
وأضاف أن هاجس المحاضر المغشوشة بات منتشرا في أغلب الوكالات التي تتغاضى عن عيوب السيارات مهما كانت خطورتها، من أجل كسب رضا الزبون، خاصة لما يتعلق الأمر بأصحاب الشاحنات والحافلات وسيارات النقل الجماعي الذين يطالبهم القانون بزيارة وكالة المراقبة التقنية مرتين في السنة، وكشف المتحدث أن التنافس غير الشريف بين الوكالات من اجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الزبائن هو سبب التساهل في منح محاضر المعاينة، ما يجعل أصحاب المركبات القديمة وغير السليمة يقصدون وكالات معروفة بتساهلها وغشها في محاضر المراقبة، ما يطعن في مصداقية الوكالات ويجعلها محل تهمة في انتشار حوادث المرور خاصة بالنسبة للشاحنات وحافلات نقل المسافرين، التي تعاني أغلبها من عيوب تقنية خطيرة، خاصة في ما يتعلق بنظام التوجيه والتعليق والفرملة.
وأكد مصدرنا أن بعض وكالات المراقبة التي فتحت حديثا تقدم هدايا للزبائن على غرار قارورات عطر خاص بالسيارات، ووصل بنزين بهدف كسب رضا الزبائن، وهذا ما يعتبر رشوة غير مباشرة.
أصحاب الوكالات يدفعون أكثر للعامل الذي يغمض عينه أكثر
وأضاف مصدرنا الذي يشتغل في المراقبة التقنية للسيارات منذ عشر سنوات، أن أصحاب الوكالات هم من يشجع العمال على الغش والتلاعب بحياة الناس، وذلك باعتماد سياسة تقييم الأجرة الشهرية بحسب المركبات التي يتفقدها كل عامل، وهذا ما يجعل العمال يتنافسون في مراقبة أكبر عدد ممكن من المركبات، حيث لا تتعدى المراقبة التقنية للسيارة ثلاث دقائق، بالرغم من أن القانون يحددها بـ20 دقيقة، وقال محدثنا إن العامل يتفقد يوميا من 30 إلى 50 مركبة، وفي جو مليء بالتلوث والغازات السامة، وهذا ما يجعل المراقبة التقنية تجري بشكل رمزي لدقائق معدودة، يتحصل بعدها صاحب السيارة على محضر أبيض يؤكد سلامة مركبته من العيوب.
وأكثر من ذلك، يضيف المتحدث، أن مواطنين يتحصلون على محاضر المعاينة دون عرض سيارتهم على المراقبة التقنية، وهذا بسبب الرشوة التي باتت ظاهرة تتزايد من يوم لآخر في أغلب الوكالات، التي بات يسيرها مستثمرون خواص لا يهمهم سوى ربح المال، وكشف محدثنا أن نظام المراقبة التقنية للسيارات الذي تعتمده جميع الوكالات عبر الوطن هو نظام قديم ومتخلف وغير فعال، يسهل التلاعب بنتائجه، حيث يتيح للعامل حرية تسجيل البيانات وفق ما يريد، ويمكن لمحضر واحد أن يطبع ويقدم لـ1000 سائق بتغيير لوحة الترقيم ونوع السيارة فقط. وهذا ما هو معمول به في عدد كبير من الوكالات، أين ترسل محاضر المعاينة إلى الناس في بيوتهم مقابل 1000 دج فقط.
وكالات مراقبة السيارات مسؤولة عن 30 بالمئة من حوادث المرور في الجزائر
أكد الخبير الدولي في المراقبة التقنية والمدير العام السابق لشركة المراقبة التقنية للسيارات، علي طواهري، للشروق اليومي، أن وكالات المراقبة التقنية للسيارات مسؤولة عن 30 بالمئة من حوادث المرور سنويا في الجزائر، والتي تخلف 4000 قتيل، وهذا بسبب المنافسة غير القانونية للوكالات التي تتساهل في محاضر المعاينة التي تحولت بمثابة محاضر موت توزع على السائقين، وأضاف أن وكالات المراقبة التقنية في الجزائر تعتمد على نظام متخلف تجاوزه الزمن، لا يتوفر على مميزات لتحديد العيوب الحقيقية للسيارة، كما يمكن للعمال أن يتلاعبوا بنتائج هذا النظام الذي تعتمده الجزائر منذ 2003، في حين تعتمد جميع الدول المتقدمة نظاما جديدا يعتمد على الحاسوب الرقمي في تحديد جميع عيوب السيارة.
وقال طواهري إن القانون يطالب وكالات المراقبة التقنية بفحص 133 نقطة في السيارة لمدة لا تقل عن 20 دقيقة، وهذا غير معمول به في الجزائر، حيث تكتفي الوكالات بمراقبة نظام الفرملة والتعليق والتوجيه وقياس درجة انبعاث دخان السيارة.
وكشف المتحدث أنه لم يتم الغلق النهائي لأي وكالة مراقبة في الجزائر، وهذا بالرغم من تقارير الدرك الوطني التي كشفت محاضر معاينة مغشوشة لمركبات تعرضت لحوادث مرور قاتلة، وأضاف مصدرنا أن جميع وكالات المراقبة التقنية للسيارات في الجزائر قدمت مبلغ 45 مليون سنتيم منذ 9 سنوات للمؤسسة الوطنية للمراقبة التقنية للسيارات من أجل الاستفادة من برنامج إلكتروني متطور للمراقبة التقنية، في اتفاقية وقعت بين الجزائر وألمانيا، ولكن هذا ما لم يحدث، مما جعل وكالات المراقبة تعتمد على نظام قديم، وتتساهل في منح محاضر المعاينة.
وكشف المتحدث أن معدل ضحايا حوادث المرور انخفضت في فرنسا من 18 ألف قتيل منذ 15 سنة إلى 3800 قتيل السنة الماضية، بالرغم من امتلاك هذا البلد لـ35 مليون سيارة، أما في الجزائر فضحايا حوادث المرور في تزايد مستمر بسبب عدم وجود إرادة سياسية ودراسات معمقة لتحديد الأسباب، خاصة وأن أعظم الدول تعمل حاليا بجهاز قياس المخدرات لدى السائقين، وهذا ما ساهم في تراجع سريع لحوادث المرور، وطالب المتحدث باعتماد هذا الجهاز في الجزائر، خاصة وأن 30 بالمئة من الشباب والمراهقين يتعاطون المخدرات.
وكالات المراقبة التقنية للسيارات تكذب على المواطنين
أكد مزيان شميل خبير في ميكانيك السيارات للشروق اليومي، وصاحب ورشة ميكانيكية معروفة في بلدية الكالتوس، أن ما يتم فحصه وتفقده في وكالات المراقبة التقنية غير كاف، ولا يحدد العيوب الحقيقية للسيارة، خاصة وأن هذه الوكالات تعتمد على مراقبة غير كافية ومدروسة لأنظمة التوجيه والتعليق والفرملة، كما أنها تهمل مراقبة سلامة العجلات التي تعتبر أهم عامل في سلامة السيارة، بالإضافة إلى إغفالها مراقبة تسربات الزيت من المحرك، وكشف مزيان أنه استقبل في ورشته عددا كبيرا من السيارات التي تتميز بعيوب خطيرة، يملك صاحبها محضر معاينة أبيض لا يحتوي أي ملاحظة، تحصل عليه من وكالة المراقبة التقنية بسهولة، وهذا ما يعتبر أمرا خطيرا للغاية، خاصة أن العديد من المركبات القديمة باتت تمثل خطرا على الأمن العام، بسبب عدم توفرها على عوامل السلام، خاصة بالنسبة للشاحنات وحافلات نقل المسافرين، وبيّن المتحدث أن العديد من السيارات المستوردة من الصين تحتوي على عيوب خطيرة في التصميم ومعايير السلامة، حيث تفتقد إلى نظام فرملة فعال، كما أنها تعاني من خلل في نظام التوجيه، مما يعرض السيارة إلى حوادث مرور خطيرة، واستغرب المتحدث من امتلاك هذه السيارات محاضر معاينة سليمة من وكالات المراقبة التقنية، التي باتت تكذب على المواطنين وتعرض حياتهم للخطر.
إجراءات جديدة لتعزيز الرقابة التقنية على السيارات
اعترف المدير العام للمؤسسة الوطنية للمراقبة التقنية للسيارات، عبد الله غريب، بتجاوزات خطيرة في المراقبة التقنية للسيارات، ما تسبب في غلق أزيد من ستة وكالات منذ بداية السنة، بالإضافة إلى توقيف 5400 سيارة عن السير.
وكشف في تصريح للإذاعة الوطنية عن تبني إجراءات جديدة في المراقبة ستدخل حيز التطبيق بداية أفريل المقبل، ستمس سيارات الخواص الموجهة للنقل الخاص أو النقل العمومي والمسافرين، من شأنها أن تقر عقوبات ومخالفات جديدة قد تؤدي إلى التوقيف الفوري للمركبة، وشدد المتحدث أن الحافلات التي توجد في حالة متدهورة "المقاعد" معرض صاحبها بحكم الإجراءات الجديدة إلى التوقيف عن السير، بعدما كان الأمر في الماضي يقتضي التنبيه الشفهي.
وأضاف المتحدث أن المراقبة التقنية ستمس أجزاء إضافية من المركبة، خاصة الشكل الخارجي، وأشار المدير العام للمؤسسة الوطنية للمراقبة التقنية للسيارات الى أن 37740 سيارة تعرضت لمراقبة تقنية إضافية، من أصل 3.4 مليون سيارة تمت مراقبتها في العام 2012، وبخصوص متابعة وكالات المراقبة للوقوف عند مدى جديتها في تطبيق العملية من عدمها، أكد لغريب أنها متواصلة وأن هناك وكالات منعت نهائيا من الممارسة، وبعد 10 سنوات من إقرار نشاط مراقبة السيارات في الجزائر في العام 2003، سجلت مراقبة 18.5 مليون سيارة، حيث تم توقيف 213653 سيارة عن السير، وإخضاع 517465 سيارة لمراقبة إضافية.
عن جريدة الشروق