المقدمـة :
الحمد لله الذي أمر بالإقتداء وأصلي وأسلم على من جعله ربه قدوة لكل قدوة محمد وعلى آله وصحبه وبعد . فإن القائد الذي هو محط أنظار مرؤسيه قدره أنه قدوة لا مناص له من ذلك ، ومن هنا جاء إعداد هذا البحث الذي ركزت فيه على ما يتعلق بالقدوة الصالحة التي نريد للقائد المسلم أن يتمثلها وقد جعلته في فصلين .
في الفصل الأول أوضحت مفهوم القدوة ، وأهميتها والفرق بين القدوة والأسوة ، وكذلك بيَّنت دور الأساس النفسي في عملية الإقتداء ، ثم ذكرت أنواع القدوة وأصول القدوة الصالحة ، وختمت الفصل بنقطة مهمة جداً ألا وهي القائد بين القدوة والإقتداء حاولت فيها أن أبيَّن أن القائد الذي هو قدوة كما تقرر في النقاط قبلها هو في الوقت نفسه مقتدياً بقائد القادة محمد رسول الله وغيره من قادة الأمة الأفذاذ .
أما الفصل الثاني وهو بعنوان القائد قدوة ومحتسب بين أفراده فقد ركزت فيه على تزويد القائد بشيء من فقه الحسبة الذي هو عدته في إصلاح نفسه ومن ثم استصلاح من هم تحت مسئوليته من مرؤسيه وبهذا أكون قد أوضحت أهمية بل وخطورة الدور الذي يمثله القائد من خلال منصبه والموقع الذي يتبوأه سواء كان قائداً عسكرياً أو مدنياً فإذا ما أدرك كل قائد هذه الأهمية للموقع الذي هو فيه عمل مجتهداً على الوفاء بمتطلباته منصبه الذي هو تكليف قبل أن يكون تشريف ومطلب قبل أن يكون مغنم وبتحقق هذا من قبله يتحقق للأمة الذي يمثلها هذا القائد الناجح العز والتقدم والرقي .
نسأل الله أن يحقق للأمة الإسلامية كل ما تصبو إليه من عز وسؤدد إنه القادر على ذلك وحده وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده
وهذا البحث ليس الا جهدا متواضعا فيما يتعلق بالقدوة بشكل عام الى جانب جهود سبقته خدمت الموضوع وبينت الدور العظيم بل والحساس للقدوة لعل من ابرزها فيا اطلعت عليه الكتب التاليه:
1.القدوة الصالحة اخلاق قرآنية ونماذج ربانية للاستاذ حسين ادهم جار
2.القدوة الصالحة وأثرها في الدعوة للدكتور /علي بن حسن القرني.
الفصل الأول : القــدوة وأهميتهــا
تمهيد :
إن استقامة المؤمن على دينه ، وقوة علاقته بربه ، وحسن خلقه وتعامله يعكس التَدَّين الحقيقي لجوهر تلك النفس التي بين جنبيه ، والذي يفيض عنها ذلك التأثير الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب فيكون كل ذلك مدعاة للتأثير والاقتداء .
وفي هذا الفصل سأحاول أن أتعرض لبيان مفهوم القدوة الصالحة التي أراها لازمة للقائد بحكم المكانة التي هو فيها فيعمل على تقمصها بدل أن يتقمص ضدها فهو لا محالة متقمص إحداهما شاء أم أبى لأن موقعه ومكانه بين مرؤسيه هو مكان اقتداء كذلك سأشير إلى أهمية هذا الدور الذي هو فيه وهو ( القدوة ) حتى يتحسس خطورته فيختار لنفسه ما ينقذها ويليق بها . ويبعدها عن ما يشينها وبالتالي يكون سبباً في فشل قيادته والقدح في سيرته وفيه سيكون . بيان الفرق بين القدوة والأسوة ، والأساس النفسي في عملية الإقتداء، وانواع القدوة ، واصول القدوة الصالحة ، ثم يكون ختام الفصل اهمية القدوة الصالحة 0
تعريف القدوة :
في اللغـة :
جاء في المعجم الوسيط ( 1 ) ( القدوة : يقال فلان قدوة إذا كان يقتدى بـه ، ولي بك قدوة . ومنها قوله ( اقتدى به ، أي فعل مثل فعله تشبهاً به ) .
وفي لسان العرب ( 2 ) ( القدوة من التقدم ، يقال فلان لا يقاديه أحد ولا يباريه أحد ولا يجاريه أحد وذلك إذا تميز في الخلال كلها ) .
أما في الاصطلاح :
( فالاقتداء هو طلب موافقة الغير في فعله ) ( 3) .
والقدوة هو الأسوة والعكس ، فالأسوة كما يقول القرطبي رحمه الله (هو ما يتأسى به أي يعتزي به فيقتدي به في جميع أحواله ) ( 4) .
ومن خلال ما جاء في كتب اللغة وبعض كتب التفسير عن القدوة يتضح لنا أن القدوة لا تتحقق بصفة واحدة ، ولكن يلمح ابن منظور في لسان العرب إلى شمول القدوة للصفات كلها ، فلا يتحلى بخلة دون خله ومن هنا وجب على القائد المسلم الذي نريده أن يكون قدوة صالحة أن يتمثل شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ويطبق كل ما أثر عنه في سلوكه وأخلاقه ويتأسى به في كل أفعاله .
كذلك اتضح لنا من التعريفات ضرورة أن تكون الخلال التي يتخلق بها أصلية لا مصطنعة ، وكلما كانت الصفات والخلال الحسنة فطرية ومترسخة في الإنسان كان تأثيرها في الغير أكبر ، وكان داعي التخلق بها والاقتداء والمحاكاة منهم أشد .
وإذا قلنا إن الصفات يجب أن تكون خلقية فطرية أو مغروسة بالتمرن والتخلق وطيبة تجذب الآخرين وتدعوهم للمحاكاة فإنه ينبغي أن يكون القدوة أيضاً قدر الإمكان حسن الهيئة غير ذميمها حتى تنجذب إليه الأعين وأن يكون لين الجانب غير فظ ، يقول الحق تبارك وتعالى في شأن قدوة كل قدوة محمد صلى الله عليه وسلم ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك . فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ( 5 ) .
وأجمل ما تكون الخلال التي يتخلق بها القدوة إذا كانت مستوية مستقيمة على دينه وخاضعة له أو نابعة منه . ثم إن من الأفضل أن يكون القدوة ذا طريقة واضحة حتى يسهل الاقتداء به على ضوئها دون غموض .
والاقتداء فيه معنى التشبه فأنت إذا اقتديت بشخص ما قلدته فإذا حصل تقليده حصل التشبه به . ومن الناحية الشكلية فإن لفظة القدوة تذكر باعتبار صاحبها وتؤنث باعتبار اللفظ فللذكر والأنثى تطلق كلمة ( قدوة ) لا فرق .
هل القدوة هي الأسوة ؟
مر بنا أحد المعاني في التعريفات بما يفيد أن القدوة هي الأسوة ومع ذلك فإن المتتبع يجد أن كلا اللفظتين وإن ظهر بينهما توافق في المعنى في بعض الجوانب إلا أن هذا التوافق ليس على إطلاقه فلا تزال بين اللفظتين فروقاً يمكن حصرها في أن :
(1) التأسي أشد في بابه من الاقتداء .
(2) التأسي يجعل معنى الالتزام من الغير بشكل أقوى ولذلك فإنها جاءت مع النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره أفضل الأنبياء والمرسلين ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … الآية ) ( 6 ) .
أما القدوة فقـد جاءت مع غيره من الأنبيـاء والصالحين من الصحابة وغيرهم ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 7 ) يعني بالأنبياء والرسل السابقين لمحمد صلى الله عليـه وسلم جميعـاً ، وكذلك ما ورد في قولـه صلى الله عليه وسلم ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ( 8 ) .
الأساس النفسي في عملية الاقتداء :
إن فكرة وجود القدوة تقوم على أساس منطوقة تأثير الطباع في الطباع. ( وحاجة الناس إلى القدوة النابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع هي التقليد ، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل ، والقوي ، والرئيس ، كما تدفع غريزة الانقياد في القطيع جميع أفراده اتباع قائده واقتفاء أثره ) ( 9 ) . وعلى هذا الأساس يتضح لنا أن عملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل ولكنها كما تقدم غريزة مغروسة في نفس كل إنسان تظهر متى وجد واحد من عناصرها الثلاثة وهي :
(1) الرغبة في المحاكاة والاقتداء :
فالطفل أو الفتى مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها نحو محاكاة من يعجب به في لهجة الحديث ، أو أسلوب الحركة ، أو المعاملة ، وهذا التقليد قد يكون في حسنات السلوك وقد يكون في سيئاتـه ، وقد تلاحظ في بعض المرؤسين مع قائدهم شيء مـن هـذا فتجـد المقتدي ( المقلد ) يقلد رئيسه وقائده في بعض الحركات حتى في طريقة ونبرة الصوت وحركة الشفائف ، وهذا لاحظناه في أوساط قواتنا المسلحة ممن يعجبوت ببعض قادتهم ويتأثرون بهم .
(2) الاستعداد للتقليد :
لكل مرحلة من العمر استعدادات وطاقات محددة وعلى هذا نجد الإسلام لم يأمر الأطفال بالصلاة قبل سبع سنوات ، ولا يمنع ذلك من ترك الطفل يقلد أبويه بحركات الصلاة قبل أن يبلغ السابعة ومن الظروف التي تهيب بالناس جميعاً استعداداً لتقليد الأزمات والكوارث والآلام الاجتماعية التي يتحول معها القائد ليكون أباً وبطلاً يحاكيه كل مرؤسيه في كل سلوك من حياته ومن تلك الأسباب أيضاً الشعور بالضعف أمام القوة فالمغلوب يقلد الغالب . كما يقول ابن خلدون في مقدمته ( المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ، والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه ) ( 10 ) .
(3) الهدف :
إن لكل تقليد هدفاً وقد يكون هذا الهدف معروفاً لدى المقلد وقد لا يكون معروفاً ، فعدم وضوح الهدف أو معرفته تكون لمجرد المحاكاة والتقليد فقط ، وأما وضوحه فقد يرتقي معه وعي التقليد لدى المقلد حتى يصبح عملية فكرية يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز وعندها يرتقي بهذا التقليد إلى مفهوم راق في الإسلام ، يطلق عليه ( الاتباع ) وأرقى هذا الاتباع ما كان على بصيرة ( 11 )، يقول الحق تبارك وتعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) ( 12 ).
فإذا ما أدرك القائد هذا وعرفه كان لزاماً عليه أن يراعي وجود هذه الغريزة لدى مرؤسيه ، فيجتهد بعد ذلك أن لا يعمل ولا يتصرف إلا على وحي مما كان عليه قدوته وقدوة المسلمين بعامة نبينا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون القائد قد استثمر هذه الفطرة عند مرؤسيه فيما يعود على الجميع بالنفع والفائدة .
أنواع القدوة :
عند النظر في وضع الكلمة اللغوي وما جاء في تعريفها اصطلاحاً نتبين بدقة أن المُعرفين لكلمة القدوة يميلون إلى صرفها نحو الوجه الحسن فينحازون بها إلى القدوة الصالحة المؤثرة في الغير ويعتبر هذا المنحى أساسياً وظاهراً في الوضع اللغوي ومن أوضح الأدلة على بيــان ذلك وبيـان معالم القـدوة الصالحة قوله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … ) ( 13 ).
فالقدوة الحسنة هي التي تأست وتمثلت شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ومجاهدته وخلقه واقتفت أثره في كل شيء ونهجت نهجه وتمسكت بسنته ولا بأس أن نستأنس بمثال ساقه صلى الله عليه وسلم يوضح فيه أثر كلا النوعين من القدوة ؛ القدوة الصالحة والقدوة السيئة ليُقرِب المعنى ويرسخ المفهوم ويوضح الأثر الذي يمكن أن يتركه القدوة في نفوس مقلديه والذين يحاكون أخلاقه وتصرفاته يقول صلى الله عليه وسلم ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك ( 14 ) وإما أن تبتـاع منه ( 15) وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجـد منـه ريحاً منتنة ) (16) .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المثال المحسوس أراد أن يبين تلك الآثار التي يمكن أن يتركها الجليس الصالح - والذي يمثل القدوة الحسنة – فيمن يجالسه فالمسلم إذا اختار جليسه الصالح ثم اقتدى به يكون قد ضمن لنفسه الاقتداء بقدوة صالحة ولو أردنا أن نقف على بعض الآثار التي يتركها الجليس الصالح فيمن يجالسه لوجدنا أنه يأمر جليسه بالخير والمعروف وينهاه عن الشر ويسمعه القول الصادق والعلم النافع ثم هو يعرفك عيوب نفسك ويشغلك عن ما لا يعنيك وهو دائماً يدلك على الخير ويرغبك فيه ويحذرك من الشر وما يزال معك على هذا الحال حتى يكون فعلاً كبائع المسك الذي لا يمكن أن ينالك منه إلا ما كان طيباً .
وهكذا يكون كل قدوة في الخير لا يصدر عنه إلا ما كان خيراً يفيض على عقول الناس كما تفوح رائحة المسك من بسطة بائعه .
وقد ينحرف الإنسان في سلوكه ويدبر أموراً مضره ويحفر حفراً للشر يريد بها غيره . فيصير عندئذ قدوة سيئة يحتذي حذوه كل من فسدت طويته ، وساء خلقه ، وفي هذا نرى أرباب الشر في كل مكان يتزعمهم أقواهم تدبيراً ويسمى هذا النوع بالقدوة السيئة ، وبالطبع فإن القدوة السيئة هو على نقيض ما هو عليه القدوة الصالحة الذي يتأسى بشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم والقدوة السيئة يتمثل أخلاق الشياطين من الجن والإنس ، والقائد لاشك يدرك أنه قدوة شاء ذلك أم أباه ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بديل أبداً في أن يختار النوع الأول وهو أن يكون قدوة صالحة ، وبذلك يضمن أن لا يصدر عنه في تصرفاته وأخلاقه إلا ما يخدم مصلحته ومصلحة مرؤسيه .
ومن هذا نخلص إلى القول بأن أنواع القدوة لا تخرج عن نوعين قدوة صالحـة وقدوة سيئة .
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي ( 17 ) ( الأسوة نوعان أسوة حسنة وأسوة سيئة فالأسوة الحسنة هي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن نهج نهجه، وأما الأسوة بغيره إذا خالف ( أي خالف الرسول ) فهو الأسوة السيئة .
أصول القدوة الصالحة ( 18 ) :
إن أصول القدوة الصالحة التي يكون بها القائد قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين كبيرين هامين هما : حسن الخلق ، وموافقة العمل للقول . فإذا تحقق هذان الأصلان حسنت سيرة القائد وأصبحت سيرته الطيبة دعوة صامتة إلى كل خلق إسلامي جميل وإن فاته هذان الأصلان ساءت سيرته وصارت قيادته مثلاً سيئاً يُنَفّر الطيبين من حوله .
فأما الأصل الأول وهو حسن الخلق فعلى القائد أن يتمثل كل الأخلاق الإسلامية الحميدة مثل الصدق ، الأمانة ، الصبر ، الرحمة ، التواضع ، المخالطة التي تتخللها المودة والمحبة ، العطف ، الإيثار والرفق وما إلى ذلك .
وأما الأصل الثاني هو موافقة العمل للقول فإن على القائد أيضاً أن يحذر كل الحذر أن تخالف أفعاله أقواله فإن النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا يوافق فعله قوله ولهذا حذرنا الله عن ذلك بقوله
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( 19 ) .
والقائد الذي لا يعتني بهذا الأصل من أصول القدوة مثله كمثل طبيب قام أمام الناس يشرح أضرار التدخين مستعيناً في ذلك بكل الوسائل والأدلة التي تثبت ما يقول ثم فجأة ومع متابعة من يتكلم معهم له وانجذابهم إلى ما يقول نراه يخرج سيجارة من جيبه ويشعلها أمامهم ثم يبدأ يدخنها !!!؟
القائد قدوة ومقتدياً
كما سبق تقريره من قبل من أن القائد لا ينفك عن كونه قدوة فهو في الوقت نفسه مقتدياً ومقلداً ومتأسياً بسلفه من قادة الأمة الإسلامية وأولهم أسوة وقدوة كل قدوة محمد رسول الله وصحبه . إن القائد يحاكي سيرة المثل الكامل نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه الحق تبارك وتعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … ) ( 20 ) والذي قالت فيه زوجه عائشة وهي تصف خلقه عليه الصلاة والسلام ( كان خلقه القرآن ) أي أنه صاغ نفسه في فعله وقوله على نحو مما جاء في القرآن فأصبح قرآناً يمشي على الأرض ، إن القائد عليه أن يحاكي سيرته وفي الوقت نفسه يدرس كل جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام يدرس سلوكه ، عبادته ، حلمه ، تواضعه ، زهده ، جوده ، كرمه ، رحمته ، شجاعته ، قوته ، حسن سياسته ، تدبيره ، ثباته على المبدأ . ويعلم القائد وهو يفعل كل ذلك أن هذا منه موافق لما كان يقوم به الصحابة في شأن التأسي برسول الله ، فلقد كانوا يُدَرِسُون سيرته ويحاكون كل ما عرفوه عنه قليه وكثيره بل كانوا يغرسون ذلك في نفوس أبنائهم يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد عاش زمناً بعد رسول الله ( كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن ) ( 21 ) . والقائد معني بدراسة تلك المغازي قبل أي أمر آخر ، وبعدها ينظر في سيرته الأخرى عليه الصلاة والسلام فإنه المعلم الذي ينزل عليه الوحي برسالة الإسلام ليبلغها للناس جميعاً ، وهو صاحب المدرسة التي تخرج منها قادة أمم وعباقرة حروب ورجال إصلاح وعلماء وفلاسفة ورواد حضارة ، ولم يكن هذا الإنجاز الرائع أمراً يسيراً وهيناً فيكفي أن نقارن بين حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده حتى ندرك السر في هذا التحول الكبير فلقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده فكانت مدرسته خير مدرسة وجدت بين البشر وجمعت قلوبهم على الحق وقادتهم إلى الخير وحملت مشاعل الحرية والحضارة للإنسانية جمعاء ولقد حقق القادة الذين تخرجوا من مدرسة النبوة أعظم الفتوحات في تاريخ البشرية في مدة هي بمقاييس ذلك الزمن قياسية جداً ففي أقل من مائة عام غطت فتوحاتهم جزءاً كبيراً من العالم القديم ( وامتدت من الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلس غرباً وبلغ عدد قادة الفتح الإسلامي مئتان وستة وخمسين قائداً منهم مئتان وستة عشر قائداً من الصحابة والباقون من التابعين ) ( 22 ).
هؤلاء القادة هم ومن جاء بعدهم من قادة الأمة الإسلامية جميعهم ينبغي للقائد الذي نعنيه في هذا البحث أن يحاكي أفعالهم ويقرأ سيرهم فإذا أحسن القائد في محاكاة كل هؤلاء فإنه بلا أدنى شك سيصبح قدوة حسنة يستفيد منه غيره ممن تنالهم قيادته ، وهو موضع اقتداء لهم ، وبهذا يصبح من الدعاة إلى الله لا بمقاله فقط ولكن بحاله وسلوكه ، وبسيرته الطيبة التي يحاكي ويقلد فيها من أُمر بتقليده والتأسي به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم . ومن هنا يتبين أهمية الدور الذي يقوم به ويمثله بل وخطورته إن لم يحسن القيام به .
أهمية القدوة الصالحة
إن للقدوة الصالحة التي يمثلها القائد أثراً فعالاً في حياة من يرأسهم وهو مسئول عنهم ، لها أثر في تربيتهم وإصلاحهم .
ذلك أن القدوة نموذج إنساني يعيش ممثلاً ومطبقاً لذلك المنهج الرباني الذي جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وهذا النموذج يعيش واقعاً عملياً يحقق تطبيق ذلك المنهج من خلال السلوك والتصرفات التي تُرى بالعين فتترك أثراً عميقاً في نفوس الناس الذين يعيشون من حوله مما يجعلهم يأخذون ويقبلون ما يقوله أو يفعله دون تردد أو ريبة لأن ما يمثله هو الإسلام الذي صاغ نفسه على وفق ما دعى إليه الإسلام فجعل منه نموذجاً قرآنياً يدب على الأرض ولنستعيد هنا أيضاً ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئلت عن خلق رسول الله قالت : ( كان خلقه القرآن ) فكأنها بوصفها هذا جعلت من الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً يراه الناس ويلمسونه من خلال تمثله في سلوكه وكل تصرفاته لدقة وقوة تمسكه وتطبيقه لما جاء في القرآن الكريم .
وعلى هذا يكون القائد الداعية ، مثلاً حياً لكل المبادئ التي يعتنقها ، مثلاً ترنوا إليه أعين مرؤسيه وتنجذب إليه نفوسهم حتى يستمدوا من الفضائل التي يفترض أن يحملها فينير لهم طريق الخير .
ألا وإن مما يمكن أن نبين به أهمية القدوة هو ذلك المثال العظيم والأثر الكبير الذي مثلته القدوة في نشر الإسلام في كثير من أصقاع الدنيا بواسطة تلك النماذج المتحركة التي دعت إلى الإسلام بأفعالها قبل أقوالها ، فاستقطبت تلك النماذج ملايين البشر دخلوا في دين الله دونما فتح ولا جهاد تلك النماذج تمثلت في أعداد ليست بالكثيرة من التجار المسلمين والزوار الذين أدخلوا بسيرتهم وتمسكهم بتعاليم دينهم كل هذه الأعداد إلى الإسلام .
والقائد وهو يتحسس هذه الأهمية للقدوة سيسعى وبكل ما أوتي إلى أن يجعل من نفسه قدوة صالحة يستميل بها مرؤسيه نحوه لإنجاز ما يناط به وبهم من مهام وأعمال على الوجه الذي يرضي .
كما أن على القائد أن يدرك أيضاً أن هناك خطورة حقيقية في حال عدم تحسسه لأهمية الدور الذي هو فيه فعليه أن يأخذ جانب الحيطة والحذر في كل تصرفاته وأن لا يأتي إلا ما يراه خيراً يرضي ربه ويحض به جنده لأنه في نظر أفراده ومرؤسيه إن صح لنا أن نشبهه كالشاشة البيضاء الناصعة البياض التي يمكن أن ترى عليها أدنى الملوثات .
وإن المرؤسين حول قائدهم الذي هو قدوتهم ينظرون إليه دائماً نظرة الناقد وفي الوقت نفسه المُقلد الذي يَتَلقون عنه ، وهم يحسبون عليه كل حركاته وسكناته سواء شعر بذلك أم لم يشعر لأنه كما كررنا في نظر مرؤسيه مصدر إقتداء ، ومادام على هذا الحال فإنهم يرون فيه الكمال مما يجعله في أعينهم فاضلاً وبالتالي يجب تقليده والأخذ عنه ، فإذا وفق في أن يكون سلوكه طيباً وعمله يوافق قوله كان فعلاً قدوة صالحة يجب التأسي به والأخذ عنه . أما إذا كان غير ذلك كان والعياذ بالله قدوة سيئة يصبح في الأخذ عنه وتقليده خطورة على مرؤسيه ومن ثم على قواته المسلحة التي ينتمي إليها ، لأنه بموجب رتبته ووظيفته مع مرؤسيه بمثابة الغالب . والمغلوب دائماً مولع بتقليد الغالب وهذه سنة من سنن الحياة فطر الناس عليها ، وقد تقدم قول ابن خلدون في مقدمته ( المغلوب دائماً أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه )( 23) .
والكمال الذي أشار إليه ابن خلدون ينقسم إلى قسمين ؛ القسم الأول هو مقدار ما يملكه الإنسان من مبادئ وهو ما يعنينا هنا والقسم الثاني هو الكمال في الساعد والسلاح والقائد في الحقيقة أنه يملك من الصلاحيات ما يؤهله لبلوغ ذلك الكمال بما يجعله في موضع الاتباع والاقتداء من قبل المرؤسين مهما تضاءل هذا المقدار مادام المُقلد فاقداً له ، ومن أجل هذا استحق القائد مرتبة الاقتداء الذي قد يحسنها فيكون قدوة صالحة وقد يسيء استخدامها فيكون قدوة سيئة .
والقدوة الصالحة من أهم وسائل التأثير في الآخرين سيما إذا كان هؤلاء الآخرين هم في مرتبة أقل كما قلنا من مرتبة القدوة ، ولذلك فإن كثيراً من الناس لا يعمل ويطبق ما يقال له إلا إذا رأى ذلك الذي قيل له واقعاً يشاهده بعينه في عمل القدوة وفعله ، عندها تزداد قناعة المقلد ويعلم أن الأمر الذي يطلب منه أن يحاكيه ويقلده ليس من باب المستحيلات أو المعجزات التي لا يمكن تطبيقها وإنما هو من باب الممكنات التي يتيسر فعلها ، قال الإمام الشاطبي رحمه الله ( إذا وقع القول بياناً فالفعل شاهد له ومصدق ، وبيانه وتفصيله أن العالم إذا أخبر عن إيجاب عبادة من العبادات أو لزوم فعل من الأفعال ثم فعله هو لم يخل به مقتضى ما قاله فيه ، عند ذلك يقوي اعتقاد إيجابه وينتهض العمل به عند كل من سمعه وأخبر عنه ورآه يفعله ) ( 24) .
ومن هنا تظهر النتائج العكسية عندما يخالف العمل القول من قبل القدوة يظهر شعور لدى المقلدين والأتباع بأن ذلك الأمر غير ممكن العمل به فيعملون بضده معتمدين على ما شاهدوه من قدوتهم وهنا تكمن خطورة الاقتداء عندما ينحرف صاحبه .
وأريد أن أختم هذه الأهمية لعملية الاقتداء بما ذكر سيد سابق وفقه الله في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) إذ يقول : ( والقدوة الطيبة والأسوة الحسنة لها شأن كبير وأثر بعيد المدى في نفس الإنسان ونجاحه في الحياة ، إذ هي هاد يشير إلى المثل الحي والفضيلة المجسمة وعرض للنماذج البشرية الصالحة التي يراد محاكاتها والاقتداء بها . وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي برسل الله وأنبيائه الذين تقدموه فقال تعالى ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 25 ) .
ومن كل ما تقدم في هذا الفصل يصبح الأمر واضح في نظر القائد وضوح الشمس بأنه قدوة وأن هذه المكانة التي هو فيها توجب عليه أن يتلمس مستتبعاتها فيدرك أنه مؤهل لأن يمارس واجباً آخر يقوم بدور مهم ألا وهو الدعوة إلى الله عز وجل الذي لا فكاك له منه ويتبين ذلك من خلال أسطر الفصل بعده ( القائد قدوة ومحتسب بين أفراده ) .
الفصل الثاني : القائد قدوة ومحتسب بين أفراده
تقرر معنا في الفصل قبله أن القائد قدوة وأنه لا مناص له من هذا الدور مادام يشغل منصب القيادة ، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من وقفة نحدد فيها ملامح شخصية القدوة بشكل عام وكيف يمكن إعداده حتى يكون ذلك عوناً له كيما يعد نفسه على وحي من ذلك فيكون متصفاً بصفات القدوة الصالحة التي بها ينجح في قيادته ودعوته إلى الله بين أفراده .
وفي نقاط مختصرة نستطيع أن نحدد تلك الملامح للقدوة التي جاءت في القرآن من خلال النقاط التالية :
(1) أن القدوة ( القائد ) صنف من البشر قد اختاره الله لأن يكون راعياً ومسئولاً عن رعيته وهذا يوجب عليه أن يكون محتسباً في الدعوة إلى الله وهذا التشريف له بهذه المسئولية هو في الوقت نفسه تكليف يقول الله في شأن هذا التكليف ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) ( 26 ) ، ويقول ( الله يجتبي إليه من يشاء ) ( 27 ) ، ويقول ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 28 ) .
(2) إن القدوة وهو مختار ، ملزم بمتابعة منهج لا يحيد عنه ، وهذا المنهج هو ما جاء به الإسلام يقول الحق موجهاً كل أتباع هذا الدين ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ( 29 ) .
(3) أن القدوة تحوطه عناية الله وتوفيقه مادام مستقيماً على منهج الله ومطبقاً له في نفسه ومع الآخرين وهذه العناية وهذا التوفيق متمثل في نصر الله له وتثبيته له يقول الله في ذلك ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) (30) ويقول تعالى ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (31) .
(4) أن القدوة الذي يحالفه النصر من الله والتوفيق والثبات على منهجه يكون قد أصبح في درجه تؤهله بأن يكون قدوة صالحة يأمر بكل معروف وينهى عن كل منكر ، وعندها تحصل له الخيرية التي وعد الله بها من يقوم بذلك ويحصل له الاجتباء والاختيار يقول الحق تبارك وتعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية ) (32) ، ويقول ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) (33) .
هذه إذن نقاط بارزة يجب أن تظهر في شخصية القدوة الذي يجب على الأمة أن تعد أبناءها الذين سيصبحون في يوم ما قادة لأمتهم يحملون رسالتها ويدعون إلى مبادئها ، ولن يكونوا على مستوى هذه المهمة ، إلا إذا تم لهم ذلك الإعداد الذي يتطلبه إعـداد القدوة ، وهذا الإعداد يتطلب أن ندرك أن الإنسان الذي يمثل هـذا الدور ( دور القدوة ) يولد ومعه بعض الصفات الموروثة التي يمكن استغلالها وصقلها ، ومن هـذه الصفات الذكاء ، والفطرة المستقيمة ( كل مولود يولد على الفطرة … الحديث ) . أما الصفات المكتسبة من البيئة التي يعيش فيها الشاب كالتقاليد واللغة والروح الجماعية والانعزالية وغيرها فيمكن استغلالها وتوجيهها في نفس هذا الشاب على نحو ما تدعو إليه عقيدته ويسير في مرضات ربه . ولو فتشنا من حولنا كيف يتم إعداد الفرد الذي يراد له أن يمثل فكرة مذهبية ، أو سياسية كما هو الحال مثلاً في مدارس ما يسمى بالتبشير ( التنصير ) لرأينا العجب ، في ضخامة الجهود التي تبذل والوسائل والأساليب التي تتخذ لكي تعد هذا الشخص للقيام بأعباء هذه المهمة التي سيتولاها في التنصير ، فهم مثلاً يقومون باختيار طلاب هذه المدارس بواسطة شروط معينة ثم يقومون بعد ذلك بعزله عن مجتمعه تماماً لكي يتكون تكويناً خاصاً في بيئة أعدت له خصيصاً ، ثم بعد ذلك تخرجه إلى الناس وقد انغرست فيه هذه المبادئ وأصبح ينشرها ويدافع عنها كأقوى وأخلص ما يكون .
فما أحرى القائد وقد بلغ من العقل والوعي والإدراك لأَبعاد ما هو فيه من مسئولية ، أن يعد نفسه الإعداد المناسب لكي يتولى مهمة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين مرؤسيه على أكمل وأحسن ما يمكن ، وأنه إذ يقوم بإعداد نفسه إعداداً يتناسب وعظم المسئولية المنوطة به ، يجب أن يدرك أن ذلك لا يتأتى له إلا إذا فقه دينه ، وعلم بمقاصده حتى تكون دعوته واضحة والاقتداء به مأمون .
ولعل من أبرز وأهم ما يمكن أن يُعد به القدوة لكي تتحقق الثمرة من الاقتداء به أن يُهتم بثلاث أساسيات في ذلك ، هي ركائز لا يكون القائد قدوة صالحة دون وجودها في ثقافته وتربيته وهذه الركائز هي العقيدة ، الأخلاق ، والعلم .
فأما العقيدة ودورها في تكوين القدوة فهو دور أساسي يفوق في أهميته وضرورتـه . وأثره في حياة المسلم بصفة عامة ، والقدوة بصفة خاصة ، كل المؤثرات والأسباب الأخرى . وقائد ليس له عقيدة لا يكون محل اقتداء ( بل هي قضية مصيرية تمّيز بين القائد الحق المؤمن وبين القائد المزيف ) (34) فالعقيدة الراسخة ضرورة لكل قائد وليس بقائد حقاً من لا يتحلى بعقيدة راسخة تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤسيه على حد سواء إذ أن تبادل الثقة بين القائد ورجاله تجعلهم يسيرون وراءه للموت ، وهم قطعاً لا يسيرون إلى الموت وراء قائد لا يثقون به . والعقيدة هي التي تشكل في القائد الشخصية المتميزة التي تعرف هدفها وتعمل على تحقيقه . وأما إعداد القدوة خُلقياً فإننا نعني بذلك الإعداد الخلقي للقدوة بأن يكون مع النـاس جيَّاش العواطف كبير القلب ينبسط للخير ويفرح به للآخرين ويحرص عليه ، وينقبض عن الشر ويضيق به ، ويفر منه وهذا هو جوهر الإيمان(35).
ولو تتبعنا اهتمام الإسلام بأمر الأخلاق التي اعتبرناها ركيزة أساسية في إعداد القدوة لعرفنا مدى أهمية إعداد القدوة خُلُقياً وتزويده بالأخلاق الإسلامية ، ثم لوجدنا أن مبعث الأخلاق يستند إلى نص إلهي يحقق للإنسان نمواً اجتماعياً وحضارياً ، والأخلاق الإسلامية ليست في جانب دون آخر بل هي شاملة لكل الجوانب التي تمس معاملات وآداب المسلم ( فالأخلاق الإسلامية تدفع بطبيعتها إلى التكامل في البناء الاجتماعي الذي يقوم بتوطيد العلاقات الإنسانية بين الناس على أسس الإيمان والإخلاص .
والأخلاق الإسلامية وإن اتفقت مع بعض الأخلاق غير الإسلامية في المسمى إلا أنها تختلف عنها من حيث المصدر والتحلي والتطبيق . فالإسلام في باب الأخلاق يُوصل الأخلاق الأساسية الإنسانية ويوطد أركانها في جانب ، ويوسع في تطبيقها بحيث تشمل مظاهر الحياة الإنسانية كلها في جانب آخر ، وخذ لذلك مثالاً للصبر ، فمهما بلغ الرجل الغاية في الصبر واستولى على الأمر في حلبته ، فلابد أن يقف تحمله وينفذ ثباته عند حد معلوم إذا كان لأغراض عاجلة ويستمد قوته ويتغذى من الجذور الفكرية للشرك والعبودية المادية .
أما الصبر الذي يستجلب قوته من جذور التوحيد والذي لا يبتغي من ورائه إلا وجه الله تعالى فهو كنز مكنون لا تصل إليه يد السارق(36) .
والإسلام يُظهر ويُبرز قيمة الفضائل الخلقية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم سيما الإنسان الذي نتكلم عنه هنا وهو القائد ( القدوة ) .
ويمكن تلخيص وجهة نظر الإسلام في شأن تربية الإنسان المسلم وإعداده خلقياً في النقاط التالية التي وردت في كتاب سيد سابق ( دعوة الإسلام )
ومنها :
(1) أن الإنسان خلق مزوداً بقوى واستعدادات يمكن أن توجه إلى الخير كما يمكن أن توجه إلى الشر ، مع التفاوت في ذلك لأن الناس كما قال عليه الصلاة والسلام ( معادن كمعادن الذهب والفضة ) (37) .
(2) أن كل إنسان مسئول عن تهذيب نفسه وإصلاحها ، يقول الله عز وجل ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) (38) .
(3) أن تزكية النفس وإصلاحها هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة وإهمالها هو سبيل الخسران ( والعصر إن الإنسان لفي خسر … الآية ) .
(4) إصلاحها وتزكيتها ويتمثل في التخلص من الهوى وفي كبت الشهوة والارتفاع عن المادة والسمو عن النقائص الخلقية فإن الهوى داعية للشر والفساد وصاد عن الحق وصارف عن الهدى والرشاد كما أنه مطية للشيطان وباب ينفذ منه إلى بني آدم ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختـم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) (39).
(5)وهذا التخلص من الهوى يحتاج إلى مجاهدة شاقة ، صبر ، وجلد فإن طريق الوصول إلى تلك المرتبة التي نريد أن يصل إليها القدوة ليست مفروشة بالورود والرياحين يقول صلى الله عليه وسلم ( … وحفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره … ) (40) .
فإذا تربى القدوة تربية خلقية على هذا الأساس ضمن لنفسه التحلي بهذه الفضائل الخلقية التي تؤهله لمهمته كقدوة ، والفضائل والأخلاق التي دعى إليها الإسلام كثيرة لعل من أبرزها ؛ الصدق ، الأمانة ، العفاف ، الوفاء، الشجاعة ، التضحية ، الإيثار ، قوة الإرادة ، الصبر ، التفاني في سبيل الحق ، الصبر والثبات ، الطاعة ، التذلل لله ، الإخاء والحب في الله والبغض في الله ، الرحمة، الحياء ، الثقة ، العفاف ، العزة ، والجـود ، الكرم ، الأخلاق ، التواضـع ، الحلم ، الرفق وكل ما خلق يحبه الله ودعى إليه القرآن أو ورد في السنة .
وأما تحصين القدوة بالعلم فلأن العلم فعلاً حصانة من الزلل بل هو له بمثابة السلاح للجندي في ميدان المعركة . وهو الوسيلة الضرورية لإيصال ما يفترض أنه يملك من الخير والفضائل إلى الآخرين وهذا هو في الحقيقة أثر العلم وفائدته بعد أن يكون القدوة قد حصله وتحصن به .
وإلى جانب كون العلم وسيلة لتوصيل ذلك الخير الذي يفترض أن يحمله ليُقتدى به على أساسه فهو في الوقت نفسه ذو فائدة للقدوة إذ به ( أي العلم ) يمكن أن يحصن نفسه من الزلل لأن العلم نور يهتدي به المسالم في دياجير الحياة وظلماتها ، فبالعلم يُميز بين الخطأ والصواب ، وأنظر معي إلى قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عــنه يوصي كميل بن زياد بأن يحصل العلم ويحترس به ويتحصن ( يا كميل العلم خير من المال ، فالعلم يحرسك وأنت تحــرس المال ) (41) .
والقدوة الذي يعد إعداداً عقيدياً ليقوم بالدعوة إلى الله يعتبر ربانياً لأنه يعـلم الناس الخير يقول الله تعــالى في ذلـك ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) (42) .
وقد اختلف العلماء حول هذه النسبة فبعض العلماء قال سموا بذلك لأنهم يربـون العلم ( أي يقومون به ) وزيدت الألف والنون للمبالغة(43) .
في حين أن البعض يقول أن تلك النسبة إلى الرب فيقال هو رباني لأنه يقصد تنفيذ ما أمره الله به من العلم والعمل .
فإذن القدوة بتلقيه العلم ثم بتعليمه للناس يكون ربانياً وهذه منزلة شريفة لا ينالها إلا إذا كان عالماً ومعلماً للخير . ولذلك اهتم الإسلام بأمر العلم اهتماماً كبيراً ورغب فيه ترغيباً عظيماً دل كل ذلك على أهميته وضرورته ويكفي في الدلالة على ذلك أن أول آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دعوة إلى العلم ( إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم … الآية ) (44) .
والنصوص التي جاءت تحث على تحصيل العلم كثيرة جداً ، يكفي أن أحد الباحثين قام بإحصاء تلك الآيات التي تلفت أنظار الناس إلى أسرار الكون وتحثهم على استجلاء غامضها فبلغت خمس القرآن(45) .
أما حامل العلم فمنزلته في الإسلام رفيعة والنصوص التي جاءت تبين ذلك كثيرة جداً ويكفينا أن نثبت هنا قليلاً منها ؛ أولها أن الله رفعهم بقوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ) ، ويقول سبحانه :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) (46) ، ويقول ( العلماء ورثة الأنبياء ) ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة .
والآثار أيضاً في فضله كثيرة أكثر من أن نستقصيها هنا لعل مـن أبرزها قــول عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما سئل ( فقيل له : من الناس ؟ قال : العلماء . قيل : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد . قيل : فمن السفلة ؟ قال : الذين يأكلون الدنيـا بالدين ) . قال الغزالي ( حجــة الإسلام ) تعليقاً علـى هذا القول من ابن المبارك ، قال : ( فلم يجعل ( يعني ابن المبارك ) غير العالم من الناس ، لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم . فالإنسان بما هو شريف لأجله ؛ فليس ذلك بقوة شخصيته فالجمل أقوى منه ، ولا بعظم خلقته فالفيل أعظـم منه ، ولا بشجاعته فالسباع أشجع منه ، ولا بأكله فالثور أوسع بطناً منه ، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه ، بل لم يخلق إلا للعلم ) (47)
ومن كل ما تقدم وغيره كثير ، يتبين لنا مدى أهمية هذا السلاح للقدوة في أي موقع كان من مواقع الحياة قائداً أو غير قائد .
ولكن القائد حاجته لهذا السلاح كبيرة لأنه محتسب للخير والعمل به بين أفراده يأمرهم بكل معروف وينهاهم عن كل منكر حتى يوفي بمسئوليته التي استرعاه الله إياها ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته … ) (48) .
القائد محتسب مكلف :
قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن القيام بالاحتساب الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعين على فئات من المجتمع دون أخرى ، وهذا فهــم لاشك بأنه قاصر . فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فريضة لا تسقط إلا بالأداء ، والمسلم مطلوب منه أن يقوم بهذا الواجب على حسب علمه وقدرته وفي شأن هذا الوجوب يقول الحق تبارك وتعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (49) . ويقـول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) (50) والوجوب في هذين النصين هو وجوب عيني لا كفـائي ولا يسقط إلا بالأداء لأن ( من ) في النصين السابقين هي للبيان وليست للتبعيض كما يقول أهل اللغة(51) .
وعلى هذا فالوجوب في حق القائد جاء من جهتين الأولى كونه مسلماً، والثانية كونه مسئولاً ، فأصبح بالثانية محتسباً مكلفاً يترتب عليه من الوجوب ما لا يترتب على المحتسب المتطوع .
فإذا علم هذا فإن الأمر يحتاج إلى أن نزود القائد القدوة المحتسب بشيء من فقه الحسبة ، حتى يكون أداءه مميزاً وعمله منضبطاً بضوابط الشرع . وما سنثبته هنا تعريف الحسبة والمحتسب حتى نُكون مفهوماً وإطاراً عاماً لهذا العمل ومن يقوم به ، ثم نحاول أن نبين طرفاً من أهمية الحسبة وبعدها . نتعرف على الشروط الواجب توفرها في المحتسب وكذا الآداب ومن ثم نحدد شروط إنكار المنكر ، وخطوات إنكار المنكر ، ومراتب تغيير المنكر ، وآخر ذلك نتلمس ضوابط إنكار المنكر بالقلب ، محاولين أن تكون كل هذه في نقاط مختصرة وعلى من أراد التوسع في ذلك العودة لكتاب الحسبة في الماضي والحاضر بين ثبات الأهداف وتطور الأسلوب ) المجلد الأول للباحث ، وهذا استعراض موجز لتلك الأحكام في الكتاب نفسه :
أولاً : تعريف الحسبة :
في اللغة يقول ابن منظور في لسان العرب (الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله) (52) .وتعاريفها واشتقاقها كثيرة يجمع بينهما هذا التعريف الحسبة لغة من احتساب الأجر عند الله على العمل ،وطلب ثوابـه ، بإنكار المنكر والأمر بالمعـروف في حسن تدبير ونظر ) (53) .
وأما تعريفها في الاصطلاح فكما جاء في كتاب ( الحسبة في الماضي والحاضر ) وهي من أكثر المصطلحات إن لم تكن أكثرها على الإطلاق ، التي اختلف في معناها وتعددت تعاريفها ، وذلك في الغالب ناشئ عن اختلاف الأفهام والنظرة للدور الذي يقوم به المكلف بها داخـل المجتمع ، ولكن سأحاول أن أثبت هنا أشهر تعريفين لهذا المصطلح حسب ما أراه ؛ أولهما تعريف الماوردي في كتابه القَيم ( الأحكام السلطانية ) (54) حيث يقول ( الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي المنكر إذا ظهر فعله ) .
وثانيهما تعريف آخر أحسبه جامعاً مانعاً للحسبة وهو ( الحسبة عمل يقوم به المسلم لتغيير منكر ظاهر أو أمر بمعروف داثر من خلال ولاية رسمية أو جهود تطوعية ، وعلى المكلف بها ما ليس على المتطوع ) (55) .
وفدلكة ومحترزات هذا التعريف تتمثل في أنه يعطي صورة واضحة وشمولية للحسبة وأنها فريضة إسلامية عينية ، أو كفائية على حسب حال المتولي لها مكلفاً أو متطوعاً فهي عينية في حق المكلف كالمعنى معنا في هذا البحث وهو ( القائد ) وكفائية في حق التطوع كما قرر ذلك الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية بقوله ( إن فرضه ( أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) متعين على المحتسب ( الوالي ) بحكم الولاية وفرضه على غيره داخل فروض الكفاية) (56).
كما أنه قد روعي في هذا التعريف أن يشتمل على ما يقوم به المحتسب للوالي والمتطوع وأنه ( أي الاحتساب ) عمل لا يسمى حسبة إلا إذا أتى من المسلم ، ولو جاء من غيره فلا يسمى حسبة وإن وافق صورته ، ولم يغفل فيه تلك الضوابط والقيود التي قررها الفقهـاء من قبل ، كقيود ظهور المنكر وترك المعروف ثم أشير في نهاية التعريف إلى أن هناك فرقاً بين احتساب كل من المكلف والمتطوع وبهذا كان هذا التعريف في نظري جامعاً مانعاً .
ثانياً : أهمية الحسبة :
إن قيام الحسبة في أي مجتمع كان هي بمثابة صِمَام أمان لذلك المجتمع ، أو هي بمثابة جهاز صيانة دائمة في أوساط المجتمع ، تحول بين أفراد ذلك المجتمع وبين الوقوع في مخالفة الشرع . فالحسبة بمفهومها الشمولي العام لا غنى عنها لأمة أو مجتمع يريد أن يطبق منهج الله في أرضه فبقيامها تحصل له الخيرية الواردة في قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية ) (57) .
ولا أبالغ إذا قلت بأن نظام الحسبة الذي هو نظام إسلامي أصيل وهو الوجه العملي التطبيقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو لحُمة هذا الدين ( الإسلام ) ، بل الشريان الذي تسري من خلاله الأخوة الإسلامية ، والمودة ، والتراحم ، والترابط الذي يجب أن يتم بين الأمة أفراداً وجماعات .
فكيف يمكن أن تتصور مجتمعاً ضاع فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتشرت فيه المنكرات ؟ إنه مجتمع لا يمكن أن تنتظم الحياة فيه ، ويأمن فيه المسلم على ضروراته الخمس ؛ الدين ، العرض ، النفس ، المال ، العقل .
ولذلك نرى أن أمة من الأمــم قد فضلها الله يـوم أن كان هذا الأمر قائماً فيها ، فلما اندثر فيها مقَتَها الله ولعنها ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (58) .
والحسبة نوع من أنواع التكافل الإجتماعي ألم يقل الحق سبحانه وتعالى ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ) (59) .
بل عدَّه ابن تيمية ( بأنه القطب الأعظم في الدين الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمَّت وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ) (60) .
ونختم استعراض هذه الأهمية بذكر ذلك المثال الرائع الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبين فيه مدى خطورة ضياع الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر في أي مجتمـع فهو يقول ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذي من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجواونجوا جميعاً) (61) .
ولأهمية الحسبة وشرف منزلتها في الإسلام فإنه كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها (62) .
وانطلاقاً من هذه الأهميـة للحسبة فإن تعلما ومعرفـة أحكامها وفقهها لا يقل أهمية عن ما نوهنا عنه اعلاه( فالاحتساب من أدق العلوم وأسماها ، ولا يدركه ويقوم به إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب ، ولا تسند ولايته إلا لمن له قدرة قدسية مجردة عن الميل والهوى ) (63) . واكتملت في حقه الشروط والآداب التي قررها الفقهاء والتي يأتي بيانها .
ثالثاً : تعريف المحتسب :
كما مر معنا في تعريف الحسبة من أنه قد تعددت تعاريفها فإن تعريف المحتسب أيضاً قد تعددت تعاريفه وسأختار أحدها ثم أناقشه .
( فالمحتسب مسلم يسعى لتغيير المنكر وإقامة المعروف وفقاً لمنهج الشريعة إمتثالاً لأمر الله وطلباً لثوابه متولياً ومتطوعاً ) (64) ، ففي قولي ( مسلماً ) أعني أن غير المسلم لا يعتبر عمله وإن كان تغييراً للمنكر حسبة ، لأن من أول شروط المحتسب كما سيأتي أن يكون مسلماً ، ولأن دافع المسلم في تغيير المنكر وإقامة المعروف غير دافع الكافر ، فالأول دافعه تعبدي بخلاف الثاني . وقولي ( وفقاً لمنهج الله ) قيد لئلا يتجاوز المحتسب وهو يؤدي واجبه ، ما أمر بـه الشرع ونهى عنه ، وأما قولي ( إمتثالاً لأمر الله ) فلأننا عرفنا فيما تقدم أن القيام بالحسبة واجب على المسلم يؤديه مع غيره ، وأما قولي ( وطلباً لثوابه فإنه مر معنا في تعريف الحسبة لغوياً أن المسلم يقوم بذلك ويرجو عليه الثواب من الله ، وأما قولي ( متولياً أو متطوعاً ) فحتى لا يفهم أن الحسبة لا تكون إلا من المكلف من قبل ولي الأمر كما فهمه بعض من عَّرف الحسبـة ، مما لم نستعرض تعريفه ، فإذا كان الذي يُعِّرف الفاعل للعمل هو العمل نفسه فالمكلف والمتطوع في ذلك سواء.
رابعاً : شروط المحتسب :
حتى ينهض المحتسب بعمله على الوجه الذي يرضي فلابد من توفر مستلزمات في نفسه أولها وأهمها توفر شروطاً معينة بذل الفقهاء جهوداً مشكورة في تحديدها .
والشروط التي حددها الفقهاء للمحتسب على ضربين ؛ شروط متفق عليها وأخرى مختلف فيها .
أ . الشروط المتفق عليها .
(1) الإسلام : وهذا شرط بدهي في كل الواجبات الدينية إذ أن ما يقوم به المحتسب هو من الواجبات الدينية التي يراد بها نصرة الدين وإعلاء كلمته . وغير المسلم جاحد لأصل الدين فكيف يكون من أهل الوجوب فيه ، ثم إنه لا ولاية لكافر على مسلم . ثم إن تكليف غير المسلم للقيام بعمل المحتسب هو إكراه ل