المنطق... والتفكير الصحيح
قالوا: إنَّ النطق عبارة عن:
"الأصوات المقطعة التي يُظهرها اللسان وتعيها الآذان. قال تعالى: "ما لكم
لا تنطقون" ولا يكاد يقال إلا للإنسان ولا يقال لغيره إلاّ على سبيل التبع،
نحو الناطق والصامت فيراد بالناطق ماله صوت وبالصامت ما ليس له صوت"
وأمّا المنطقيون فيُطلقون كلمة النطق على تلك القوّة التي يكون النطق بها،
وهي موجودة في الإنسان خاصة وتسمَّى العقل أو الفكر -ما شئت فعبِّر- ومن
هنا نشاهد بأنَّهم عَرَّفوا الإنسانَ بأنَّه "حيوانٌ ناطقٌ".
والمقصود بالحيوان، الموجود الحيّ، وبالناطق، العاقل المتفكِّر.
فإذاً المقصود من النطق هنا التعقُّل الذي هو من مميَّزات الإنسان. والمنطق
هو العلم الذي يرتبط بهذا الأمر.
المعنى المصطلح للكلمة :
لا نريد أن ُنعرّف المنطق تعريفاً دقيقاً -أعني جامعاً ومانعاً- لأنَّه ليس
بإمكاننا أن نُعرِّف العلوم تعريفاً لا يشذُّ عنه شيءٌ، ذلك لأنَّ العلوم
هيَ مسائلُ مختلفة يجمعها محورٌ واحدٌ وهو الموضوع أو مسائل تنصبُّ في أمرٍ
واحد هو الغاية. فكلُّ من يريد تعريف العلم، يحاول أن يأتي بقَولٍ يشتمل
على ذلك المحور أو ينتهي إلى تلك الغاية، فنراه لا محالة يزلُّ في بعض
الجوانب ويخطأ، فلا يكون تعريفه شاملاً ومستوعباً لكلِّ مسائل العلم أو
مانعاً ومُخرجاً للأمور البعيدة عن ذلك العلم.
ومن هنا نقول: إن التعاريف التي ذكرها القوم -رغم الملاحظات الواردة عليها
من حيث الاطِّراد والانعكاس- كلّها تستهدف حقيقةً واحدة وهي أنَّ المنطق
هو:
"قانون التفكير الصحيح"
فإذا أراد الإنسان أن يفكِّر تفكيراً صحيحاً لابدَّ أن يراعي هذا القانون
وإلاّ سوف يزلّ وينحرف في تفكيره فيحسب ما ليس بنتيجةٍ نتيجةً أو ما ليس
بحُجَّةٍ حجَّةً.
وقد عُرِّف علم المنطق أيضا بأنه :
"علم يبحث عن القواعد العامة للتفكير الصحيح" فهو يبحث عن القواعد المتعلقة
بجميع حقول التفكير الإنساني في مختلف مجالات الحياة، لا ما يخص جانباً
معيَّناً، إذ أنَّ هناك قواعد يُحتاج إليها في علم خاص كعلم النحو أو
البلاغة أو الأصول أو التفسير فلا علاقة للمنطق بها بما هي قواعد ذلك
العلم. نعم للمنطق إشراف دقيق على مدى صحَّتها أو سقمها.
فهو إذاً وسيلةٌ للتفكير الصحيح في كافة مجالات العلوم على اختلافها، ولهذا
سمي بالآلة وعُرِّف بأنَّه:
"آلةُ قانونيةُ تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر"( المنظومة ج1 ص6
و الإشارات ص9)
فهو معدود من العلوم الآليَّة لا العلوم الذاتية لأنَّه ليس علماً مستقلاً
في قبال العلوم الأخرى بل هو خادم جميع العلوم، فلا يتمكن الإنسان أن
يفكِّر في أي علم كان إلاّ مع مراعاة قوانين المنطق وملاحظة قواعده بدقَّة،
فحينئذٍ سوف يعتصم ذهنه عن الخطأ في التفكير في تلك العلوم، بل حتَّى في
المجالات العرفيَّة والمحادثات يحتاج الإنسان إلى معرفة المنطق وتطبيق
قواعده.
من هذا المنطلق يسمَّى هذا العلم بعلم القسطاس(اللمعات المشرقية ص3)
والميزان(المنظومة ج1 ص3)، فهو ميزانٌ دقيقٌ مختص بأمورٍ عقليةٍ ومفاهيمَ
علمية يقيَّم به وزن المعلومات التي يكتسبها الإنسان ويميَّز به صحة
المعلومات وسقمها، وهو المعيار الذي يمكن بواسطته ضمان النتائج السليمة
للتفكير.
أهمية المنطق :
رغم أن الإنسان مفطور على التفكير، وبه يتميز عن غيره من الكائنات، إلا
أنَّه من أجل تصحيح تفكيره من حيث الأسلوب والصورة وكذلك من حيث المحتوى
والمادة، يحتاج إلى معرفة قواعد المنطق وقوانينه، وإلا سوف لا يتمكَّن من
أن يفكِّر تفكيراً صحيحا، يميِّز به الحق من الباطل فيتورَّط في الخطأ
والإنحراف الفكري من غير أن يعرف سبب ذلك.
وبناءً عليه يستخدم هذا العلم في تصحيح عملية التفكير في مجال العلوم
الأخرى، فمن لم تكن لديه أية مخزونات علمية، لا يمكنه استخدام قواعد المنطق
أصلاً، فهو كالغواص من غير بحر أو كالنجار من غير أخشاب، كما أنَّه لو كان
بحراً من العلوم -وهو غير مُطَّلع على قوانين المنطق أو لا يراعيها- فلا
ضمان لصحَّة أفكاره أصلاً.
و الحاصل: أنَّ هذا العلم يبرمج ويرتِّب المعلومات الذهنية المسبقة ليستنتج
من خلالها نتيجةً صحيحةً مطابقة للواقع. وعلى هذا الأساس، سمِّي بـ(المنطق
الصوري) لأنَّه يتعامل مع صورة التفكير وأسلوبه، وأما محتوى التفكير
وموادّه فالمنطق يعالجها بنحو عام فحسب في مبحث يسمَّى (الصناعات الخمسة).
دمتم في رعاية الله