احتفاء الجاهلية بتلك البدايات.
وكل المحاولات الجاهلية تقوم على فكرة فصل الفرد عن الجماعة.. من خلال أي زاوية يرغب فيها.. حتى ولو كانت رغبة مشروعة في ذاتها.. مثلما عرضت قريش على عثمان الطواف حول البيت ضمن أحداث معاهدة الحديبية([6]).
فعندما دعا رسول الله ? عثمان بن عفان، وبعثه إلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب، وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظماً لحرمته.
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ? ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله ? إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ?، واحتبسته قريش عندها.. لما لم ينفع الإغراء .. كان الاحتباس.. فالأمر عندهم هو الفتنة أو الحبس.
فبلغ رسول الله ? والمسلمون أن عثمان بن عفان قد قتل.
وكما يقف الفرد موقف الانتماء للجماعة تقف الجماعة موقف الدفاع عن الفرد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ? قال -حين بلغه أن عثمان قد قتل-: «لا نبرح حتى نناجز القوم» فدعا رسول الله ? الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان كعب من أصحابها.
فما كان لكعب أن يتأثر برسالة حقيرة بعد أن عاش أحداث البيعة.. وكيف كان موقف عثمان وكان موقف الجماعة من أجل عثمان.
وكما تكون المحاولات باختطاف فرد من الجماعة تكون كذلك بإحداث أي شرخ في كيانها.. ولو بصورة خفية.
كما حاولت الفرس في معاهدتهم مع المسلمين في معركة القادسية إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مفاوض الفرس مع المفاوض المسلم على معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس على المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم، بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه.
وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتفشل خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم فاوض عليه أخوه من قبل، وهذا اليوم لا يعني واقعيًّا وعمليًّا أي شيء.. ولكنه يعني من الناحية المبدئية كل شيء، وهكذا يجب أن يكون الانتباه التام أمام خبث الجاهلية..
والملاحظة الخطيرة في توقيت الرسالة.. أنها جاءت بعد هزيمة الروم في غزوة تبوك، وملك غسان نصراني عربي حليف للروم.
لقد قام الروم بتحليل نتائج هزيمتهم أمام المسلمين.. وانتهت مراكزهم البحثية إلى أن المسلمين ينتصرون باجتماعهم على طاعة نبيهم واعتصامهم بدينهم.
فلتبدأ الخطة المعادية بعد الهزيمة مباشرة وفورًا.. فلا وقت يضيع إذا كان العمل هو محاولة الفتنة عن الإسلام واختراق المسلمين.
كما أن الرسالة تكشف بصورة تاريخية موقف نصارى العرب من الإسلام والمسلمين أمام أعدائهم.
فمنذ رسالة ملك غسان كان موقف نصارى العرب الثابت.. هو الخيانة والعمالة([7])..
جاء النبطي ليسأل عن كعب وهو في حالته الاستثنائية.
ألم يكن من الضروري -أمنيًّا- تتبع النبطي ومعرفة غرضه من طلب كعب.
لم يحدث ذلك، بل دلوه بأنفسهم عليه وتركوه له.. وتفسير ذلك أن أمن الدولة الإسلامية قائم على الانتماء الصادق لكل أبنائها واستحالة اختراق الأمة حتى من خلال فرد واحد منها؛ ولذلك لم يذكر السياق أي كلمة تكلم بها كعب مع النبطي.
«
فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ». لم يرد على النبطي، وكأنه لم يسمع أو يقرأ شيئًا.. وهذا الموقف يجب تفسيره.
فالموقف الصحيح.. ألا يقترب من خاطر كعب مثل هذه الأفكار، حتى ولو بالتعبير عن الرفض، فكان موقف كعب أبعد حتى من هذا التعبير، فلم يقل غير الكلمة التي تدل على التفسير الحقيقي للموقف: «وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ». ليس إلا ذلك، و الخروج عن هذا التفسير هو الذي يفتح باب الفتنة وخواطرها.
لا تفكر في الموقف ولا ترد فيه بكلمة.. لأن الأعداء لا يريدون منك إلا لحظة تفكير، فلا تعطها لهم.. لا تقل كلمة وافعل مثلما فعل كعب؛ لأن الأعداء لا يريدون منك إلا الكلمة التي يبدءون بها معك حوار الشيطان وخطواته.
«
حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ? يأتيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صاحبي مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامرأتي: الحقي بِأَهْلِكِ فتكوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ في هَذَا الأَمْرِ». وبعد جَفْوَةِ النَّاسِ، وإغراء الملوك، وتَسَوَّرْ الجِدَارَ ليسمع ولو كلمة.. يأتي الأمر باعتزال الزوجة..
إلىهذا الحد.. حتى الزوجة !!
ولكن الله سبحانه هو الذي يقضي.. فأمر كعب زوجته أن تذهب إلى أهلها، أما الصحابيان اللذان تخلفا مع كعب فقد طلبا من رسول الله بقاء زوجاتهما في البيت لخدمتهما، فأذن لهما دون معاشرتهن.
وإذن رسول الله ? ببقاء الزوجات دون معاشرة يعني الحسم الرحيم.. وهو الموقف المتجانس مع المنهج العام للمعالجة، كما أنه يعني أن مشاعر العلاقة الاجتماعية الكامنة في كيان الإنسان بطبعه الاجتماعي لابد أن تخضع لمقتضيات الدعوة.
فمقاطعة المسلمين لكعب تركت له فرصة.. لتتوجه تلك المشاعر نحو الزوجة وتتكثف فيها.. كمقدمة للمقاطعة الكاملة حتى مع الزوجة.
وتوجه الإنسان بكل مشاعره نحو زوجته في حال الانفصال عن المجتمع تستوجب التنبه إلى خطر هذه الطبيعة التي قد تحدث بغير انتباه لها.. ويكون الركون إلى الزوجة.
وقد تضمن موقف مقاطعة الزوجات قاعدة تنظيمية مهمة في تحديد العلاقة بين الأسرة والجماعة من خلال ولاء الرجل للجماعة وقوامته على زوجته..
فحينما أراد الرسول ? أن يقاطع المسلمون كعبًا أصدر أمره إلى المسلمين بمقاطعته.. لكن حين أراد ? أن تقاطعه زوجته لم يأمرها هي بذلك.. بل أمره هو أن يقاطعها.
فللجماعة حقها.. وللقوامة حقها.. وهذا هو الإحكام المنهجي الكامل.
التوبة ونهاية الابتلاء:
ثم تنزل التوبة ويرجّ الفرح أرجاء المدينة، ويسارع الجميع إلى البشرى بها إلى كعب فيقول:
«
سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ. قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ? بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ». مدة محسوبة باليوم والساعة.. فلا يبدأ يوم بعد المدة المحددة إلا بالتوبة.
«
فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صاحبي مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ». الذين كانوا لا يتكلمون معه.. يتسارعون في إبلاغه بالتوبة:
رجل دفعه حبه لأخيه كعب أن يصرخ من فوق جبل، وآخر يركب الفرس.
«
فَلَمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يبشرني نَزَعْتُ لَهُ ثوبيّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا». ورغم أنه لم يكن يملك إلا ثوبان ومع ذلك قال القائل في البداية: «حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ».. وبرداه يعني: الرداء والإزار.مما يدل على حساسيتهم تجاه متاع الحياة الدنيا!!
«
وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فيتلقاني النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ». فرحت الجماعة بتوبة الله على أخيهم وحبيبهم.. الذي كانوا لا يستطيعون الكلام معه، وهم الآن يتلقوه «فَوْجًا فَوْجًا»، وبعد الجفاء والجفاف تفجرت ينابيع الحب والفرح.
لقد اكتملت التجربة التربوية بلا زيادة أو نقصان؛ لأنها لم تنتهِ حتى التزمت الأمة بحكم الله في كعب.. فتمت مقاطعة المسلمين بصورة دقيقة للغاية، ويدل على ذلك موقف ابن عم كعب ثم مقاطعة كعب لزوجته، فيعبر كعب عن حالته كما عبر القرآن تمامًا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].
ولا يكون تفسير للآية إلا ممن مروا بالتجربة ولذلك يقول كعب:
«
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التي ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَك وَتَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نفسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رحبت » نزلت التوبة
ولكن قول امرأة هلال بن أمية يزيد الأمر تفسيرًا:
فعندما جاء الأمر إلى هلال: إن رسول الله ? يأمرك أن تعتزل امرأتك.. جاءت امرأة ٍ هلال بن أمية رسول الله ? فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. فقالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كانإلى يومه هذا.
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت..ضاقت عليهم أنفسهم.. ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.. فعندئذ نزل الوحي.
وهذه هي قاعدة الانتماء.. اليقين أنه لا ملجأ للمؤمن إلا إلى الله، ولا سبيل للمؤمن إلا الجماعة
ومن آيات السورة والأحاديث الواردة تحددت المعالجة وكان المنهج هو:
أحكام الشريعة وحب الجماعة:
كانت معالجة قضية كعب بأحكام شرعية.. وكان نجاح المعالجة بحب الجماعة.
في البداية يفوّض رسول الله أمر كعب إلى الله: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ».. وكانت المقاطعة أول أحكام المعالجة الشرعية، ولكن كعب يقول: وَآتِى رَسُولَ اللَّهِ ? ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ.. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صلاتي أَقْبَلَ إِلَىَّ -رحمة وعطفًا- وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّى -حسما وتربية واستعدادا لتلقي حكم الله في كعب-.
وفي النهاية.. يصل كعب إلى رسول الله ? ويقول:
«
لَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ:وَهَوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بَخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ. قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَاَ رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ? إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وعندما يبرق وجه رسول الله ? من السرور بعد نزول توبة الله على كعب ندرك أن مادة الحب الجامعة لكل أفراد الجماعة هي الحرز الأساسي للجميع.
ومع كل ما سبق تبقى حقيقة مهمة في الحرز من الفتنة.. وهي الخوف منها وعدم اطمئنان الإنسان إلى نفسه. ومن هنا كان قول كعب في آخر القصة:
«
وإني لأَرْجُو أَنْ يحفظني اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ». فيما بقي.. بعد كل هذا التاريخ.. بيعة العقبة وبعد نزول الآيات بالتوبة عليه إلى قيام الساعة.. يرجو الله أن يحفظه فيما بقيَ.
ففيما بقيَ.. هي المسافة التي يضع المسلم عينه عليها.. هذا هو الوقت الحرج.
وكانت العبارة هي الكلمة الأخيرة في القصة.. وهي كذلك الحقيقة النهائية في المضمون.
فإذا لم تكن العين على ما يتبقى من العمر.. وكانت على ما مضى من تاريخ الفرد وسابق عمله ضاع الدين وضاع العمل
من أجل ذلك يجب أن يبقى رجاء كعب هو رجاء الجميع.. «وإني لأَرْجُو أَنْ يحفظني اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ». والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.