من ذكريات الصبا، رسخ في ذهني موقف أمّي وهي تمسح الدّمع على خدّي كلّما آلمني عضو مني، أو ضربني أخي الأكبر قائلة:<< لا تبكِ بُنيّ، فالرّجال لايبكون >> .
كان لوقع كلامها سحرٌ عجيب على نفسي، فأستجيب و أهدأ، و أقرّر أن لا أبكي أبدا.
وتمرّ الأيام، وأجد نفسي مازلتُ أبكي، كلما رأيت بائسا فقيرا يعاني قساوة الحياة، أبكي لليتامى والمساكين، أبكي لخسارة الفريق الوطني، أبكي..........، وأخاطب أمّي في سرّي:<< أمّي دموعي تغلبني، لا أستطيع أن أكفكفها، ألست رجلا؟ !>> و أجدّد العزم على أن أكون ذلك الرّجل الذي لا يبكي.
و تمضي السنون، ويزداد جسمي وزنا وطولا، ويزداد عقلي تفتحا، ومع ذلك لم أتخلص من بكائي عند المواقف المؤثرة، فأعود للحديث مع نفسي:<< ألم توصني أمّي بعدم البكاء؟ ! أأخالف أمرها ولا أكون رجلا؟ !>>.
صرت شابا يافعا، طالب مجتهد، ذات يوم وفي التفاتة عفوية رأيت عينين مسمرتين اتجاهي وبمجرّد أن لحظتهما ابتسم لي ذلك الشخص، فشعرت كأن تيارا كهربائيا سرى في جسمي، فزاد خفقان قلبي وأحسست بحرارة في وجهي وكدت أتصبّب عرقا، بعد مدّة عرفت ما أصابني.
استمرّ الأمر عامين، ويشاء ربّ العالمين أن يقبض إليه روح من اخترقني بسهم لحظه، و أعود إلى البكاء من جديد فتسيل دموعي رغما عني، ويعاودني تساؤلي من جديد: ألست رجلا؟ !
بعد سنوات صرت شخصا راشدا، دخلت ميدان الحياة الحقيقي، ميدان العمل، ميدان الجدّ والكدّ من أجل بناء المستقبل، ميدان التنافس الشريف وغير الشريف، وطئت قدماي أرض الملق والمكر والخداع والمكائد والدّسائس، وقرّرت أن أكون جلمودا لا يتصدّع مهما أصابته الصّواعق، عزمت ألا أبكي.
و لكن هيهات، يبدو أن البكاء لا مفرّ منه، غير أن الدمع هذه المرّة ينزل وئيدا في هيبة ووقار، مع حرقة وألم في الجوارح يهشم ذلك الجلمود الذي أردت أن أكونه، فقرّرت أن أكون ذاك البطل الذي طعنته يد الغدر من الخلف، فلما استدار عرف مَن طعنه، فتماسك وحاول أن يحبس ألمه وصمد وانتفخت أوداجه وجحظت عيناه ولم يصرخ، ولم يئن، ونظر في عينيْ طاعنه وابتسم حتى يُفقده نشوة النصر، ثمّ تهاوى شيئا فشيئا إلى الأرض وعَبرة الأسى على خدّه،
ولمّا عدتُ إلى رشدي، مسحت عَبرتي، وسرحتُ بذاكرتي في غياهب الماضي السحيق، وتذكرت سيَر أسلافنا الأخيار، وتذكّرت أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان رجل ذا بأس شديد ولكن كان يبكي خشية من الله، وكان يبكي لمصائب رعيّته، عندها أدركت أن أمّي كانت تقصد بوصيتها أن أكون رجلا جلودا صبورا لا ينحني أمام نوائب الدّهر، ليس أن لا أبكي، فالبكاء ضروري، ومن الفرحة ما يُبكي. هههههههههه
منقووووول