المحبة
(حقيقتها وفضلها والأسباب الجالبة لها وثمرتها)
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله فإنه من يتق الله يحبه الله ويعلمه وينصره ويجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويجعل له فرقانا، ويجعل له من أمره يسرا، ويكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ويجنبه النار، ويورثه الفردوس الأعلى مع الأخيار، وأحبوا الله لما ابتدأكم به وأسلف وواصل من سابغ نعمه، ولما تابع عليكم وعدد وأجزل من ألوان جوده وكرمه ولما ترون وتعلمون من كمال ذاته وحسن أسمائه وعلو صفاته، وإتقان صنعه لمخلوقاته، وعظيم حكمته في خلقه وشرعه وقدره وتدبيره لبرياته، ولما ترجوه من متنوع مثوبته للمؤمنين وكراماته فإنه بالتقوى تجتنب النواهي وتتقي المعاصي وبالمحبة يلزم الحق الصبر والتراحم وتتحقق بيد أهلها فيها التواصي.
عباد الله:
إن محبتكم لله تعالى هي أسس العبودية وحقيقة التوحيد، وروح الإيمان ومنشأ الأعمال الصالحة والمقامات الخيرة والأحوال الحسنة من العبيد، ويصدقها وتحقيقها وتكميلها والبعد عن نواقضها ونواقصها سعد السعيد فاصدقوا في محبتكم لله بإتباعكم لنبيه ورسوله ومجتباه نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله الله تعالى إليكم بدينه وهداه يحببكم إليه ويغفر لكم ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [1] وعلامة ذلك ذلكم ورقتكم ورحمتكم وإحسانكم ومحبتكم للمؤمنين بالله، وبغضكم وعداوتكم وشدكم على أعداء الله لكفرهم وشركهم ومحادتهم لله وجهادكم بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله وأن لا تخافوا لومة لائم في دين الله على وفق ما شرع فتلكم علامات محبتكم وتوليكم لله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾[2].
أيها المسلمون:
ليس الشأن أن يحب أحدكم الله ولكن الشأن أن يحبكم الله فكم مدعي لمحبة الله وهو بغيض عند الله ولذلكم يمتحن الله مدعي محبته بمتابعة خليله محمد -صلى الله عليه وسلم- فإن الدعوة لا تقبل إلا بالبينة وإن بينة دعوى محبة الله تعالى إتباع نبيه المصطفى ورسوله المجتبى في ما جاء به من الدين والهدى وقد تضمن ما جاء به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الدين والهدى التنبيه على عشرة أسباب تجلب لكم محبة المولى جل وعلا وتجعلكم من أوليائه أهل التقى ويودكم ويجعل لكم في صدور عباده الصالحين وداً فأول هذه الأسباب: قراءة القرآن بتدبر وفهم لمعانيه وعقل لما أريد به.
ثانيهما: التقرب إلى الله تعالى بفرائض الطاعات وتكميلها بجنسها من النوافل المستحبات ففي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه".
وثالثهما: دوام ذكر الله تعالى على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال.
معشر المسلمين:
وأما الرابع من تلك الأسباب فهو إيثار محابة تعالى على محابكم وتقديم مراده على مرادكم فإن المحب لمن يحب مطيع.
وخامس تلكم الأسباب فهو: تدبر معاني أسماء الله تعالى وصفاته وذكره ودعاؤه بها والبراءة من الملحدين في أسماء الله وآياته.
وسادسها: تذكر أنواع بره تعالى ومتنوع إحسانه وعظيم ألطافه بالصبر في قدره وقضائه.
معشر المسلمين:
وأما السابع من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى فانكسار القلب بين يدي ربه مفتقراً مضطراً إليه وانطراح العبد لربه منيباً مخبتاً إليه.
وأما الثامنة: فهو تحري أوقات الغفلة للخلوة به تعالى، الضراعة إليه والاستغفار من التقصير في حقه والتوبة إليه في جوف الليل الآخر، وحين ترمض.. من الضحى وغيرها من الأوقات التي ينهمك الناس فيها في المتع والشهوات.
أيها المؤمنون والتاسع: من تلكم الأسباب الجالبة لمحبة الله فمجالسة الصالحين من عباد الله الذين يذكرون جليسهم بالله ويعينونه على طاعة الله ويزهدونه في محرم وفضول متع دنياه ويكفونه ويحولون بينه وبين معصية الله.
وأما العاشر: فمجانبة والعبد من كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل والإحسان إلى عباد الله ابتغاء ما عند الله فإن أحب عباد الله إليه أرحمهم بعباده وهم أهل الرحمة فأينما يرحم الله من عباده الرحماء.
أمة الإسلام:
إن محبة الله تعالى هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون ونور البصائر وشفاء الأسقام والدليل على صحة الإسلام وكمال الإيمان والتحقق بالإحسان وآية الشوق إلى الله تعالى ومحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعباد الله الصالحين وفيها التسلية من المصائب، وموجبة طيب الحياة الدنيا وسعادة الآخرة والحائلة بين العبد وبين أسباب الشهوة والحسرة في العاجلة والآجلة، فأحبوا الله من قلوبكم وتحلوا بما يحببه إليكم يحببكم ولا تحبوا معه غيره فيعذبكم.
[1] (آل عمران: 31).
[2] (المائدة: 54 - 56).