صناعة الترفيه
الشيخ محمد صالح المنجد
قضايا اللهو و الترفيه صارت عند كثير من الناس شيئاً ثابتاً في حياتهم ، له برامجه المنتظمة ، و أوقاته المحددة ، حتى صاروا يرون أنه لا استغناء عنه.
قضية اللهو و الترفيه نتيجة –في الغالب- للفراغ الموجود في حياة الأفراد ، و هو من أهم العوامل الممارسة التي تؤدي إلى صور من ممارسة أنواع الضياع و التسيب: انحطاط في الأخلاق ، عالم المخدرات ، ألعاب الميسر ، صور الفساد و الانحلال.
إن مشكلة فراغ الوقت ، ظاهرة أوجدتها الحياة المعاصرة أكثر من ذي قبل ، و كان للتقدم العلمي و الصناعي مزيد من المساهمة في إيجاد أوقات الفراغ ، حوّل الإنسان إلى آلة ، بل قتل إنسانيته و لم يشبع رغبات نفسه و قلبه و عقله ، و بات كثير من الناس لا يعرفون كيف يصرفون أوقاتهم ، فتذهب عند الكثيرين في المخدرات و الجريمة و الانحراف ، ثم يقولون إنها ضريبة الحضارة ، كلا ، إنها جريمة الجاهلية.
هذا الفراغ الذي لم يوظف في النافع ، و لم يستثمر في وجوه الإنتاج التي تعود بالخير على الفرد و المجتمع ، لقد أوجد هذا الفراغ ، أوجد بيئة كبيرة للمحرمات و انتشار الرذيلة و الفساد ، و نشأ عندهم -أي في الغرب- علم يعرف بعلم اجتماع الفراغ بعد الحرب العالمية الثانية ، و هو من فروع علم الاجتماع العام يعتني بالأنشطة الترويحية و الترفيهية التي تنمّي الشخص بزعمهم و تزيد الطاقة الإنتاجية ، و هذا كلام فيه حق و باطل.
لقد أشارت بعض الدراسات إلي زيادة وقت الفراغ في حياة الأفراد ، و من أسباب ذلك التقدم العلمي الذي شهده العالم اليوم ، حلت الآلة محل الإنسان في كثير من الأعمال ، و عملت في ثوان ما لم يكن يستطيع الإنسان عمله إلا في ساعات أو أيام ، و هذه الإحصائيات تقول بأنه في عام 1875 ميلادي كانت نسبة و قت الفراغ في حياة الإنسان 7.8% ، و أما نسبة وقت العمل الإنتاجي في حياته 26%. في عام 1950 صارت نسبة وقت الفراغ في حياة الإنسان 20.7% ، و نسبة وقت العمل الإنتاجي في حياته 15%. و في عام 2000 ، صارت نسبة أوقات الفراغ في حياة الإنسان العادي 27% ، و نسبة أوقات العمل الإنتاجي فيه تقريبا 8%.إذاً تزداد أوقات الفراغ و تقل الإنتاجية. و في إحصائيات جاءت لهؤلاء الغربيين ، أن ساعات الفراغ الأسبوعية في حياة العمال زادت أربع ساعات ما بين عام 1965 إلى 1975.
و في دراسة أجريت على أربع دول عربية: الأمارات و تونس و السودان و موريتانيا ، و جد أن وقت الفراغ للشباب في أيام الدارسة من 3 إلى 4 ساعات يوميا ، و في الإجازات 9 ساعات يوميا. و عندنا هنا بالأستبانات التي وزعت على عدد من الشباب كانت النتيجة قريبة ، في أيام الدراسة معدل ساعات الفراغ لدى الذكور 4 ساعات يوميا و لدى الإناث 3 ساعات يوميا تقريبا. في أيام الإجازات تكون عدد ساعات الفراغ يوميا لدى الذكور ما بين 5 إلى 8 ساعات ، و لدى الإناث ما بين 5 إلى 10 ساعات.
قضية وقت الفراغ
هل يوجد لدينا فراغ؟ ، هل في الشريعة شيء اسمه فراغ؟ ، هل في حياة الإنسان المسلم شيء يسمى فراغ؟ ، أم أن هذا الفراغ نتج من فراغ الروح ، فراغ و خواء القلب ، و خواء العقل و النفس؟
إن الإنسان المسلم مطالب أن تكون حياته لله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56) ، هذه العبادة بمفهومها الواسع و الشامل ، كل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال و الأعمال. المسلم مطالب بإعمار وقته كله في طاعة الله ، و لذلك فإن الأعمال –حتى الأعمال المباحة- ينويها بنية صالحة تصبح عبادات ، كما لو نوى بنومه و طعامه التقوّي على عبادة الله ، و حتى معاشرة الزوجة ، قال النبي صلى الله عليه و سلم [.....وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أِيأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا] (رواه مسلم) ، قال النووي رحمه الله معلقا: و في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة و معاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به ، أو طلب ولد صالح ، أو إعفاف نفسه ، أو إعفاف الزوجة و منعهما جميعا من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به ، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. و لمّا التقى معاذ بن جبل رضي الله عنه مع أبي موسى رضي الله عنه تذاكرا قيام الليل ، فقال معاذ: أما أنا فأنام و أقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. قال ابن حجر رحمه الله: معناه أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب ، لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب ، و معناه أيضاً إني أنام بنية القوة و إجماع النفس للعبادة و تنشيطها للطاعة أو إجمام النفس للعبادة فأرجو في ذلك الأجر كما أرجو في قومتي أي في صلواتي. قال ابن القيم رحمه الله: و عمارة الوقت ، الاشتغال في جميع آنآءه بما يقرب من الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة ، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله و تجنب ما يسخطه ، كانت من عمارة الوقت ، و إن كانت له فيها أتم لذة ، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات و الطيبات ، فجميع أوقات المسلم هي عبارة عن انتقال من عبادة إلى عبادة و من طاعة إلى أخرى ، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران 191)) ، قال قتادة: هذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، أذكر الله و أنت قائم فإن لم تستطع فاذكره جالسا فإن لم تستطع فاذكره و أنت على جنبك ، يسر من الله و تخفيف. فأوقات المؤمن إذاً أيها الأخوة كلها معمورة بطاعة الله و تقواه ، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام 162-163) قال الله لنبيه صلى الله عليه و سلم {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح 7-8) ، إذا فرغت ، فرغت من ماذا؟ ، قال ابن كثير رحمه الله: إذا فرغت من أمور الدنيا و أشغالها و قطعت علائقها فانصب في العبادة ، و قم إليها نشيطاً فارغ البال ، إذا فرغت من صلاتك فانصب إلى الدعاء ، إذا فرغت من الصلاة فانصب إلى الذكر ، إذا فرغت من الجهاد فانصب للعبادة ، ...و هكذا. و هكذا أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالاشتغال بمصلحة آخرته و دنياه. إذا فرغت من كل ما كنت مشتغل به فانصب لعبادة الله تعالى.
المسلم لا يعرف الكسل و لا الإهمال ، و لا يؤثر الراحة و الدعة على رضوان الله. يجتهد في طاعته في كل وقت و حين. أوقاته مليئة بالمهمّات ، ينتقل من طاعة إلى طاعة ، من لسان إلى عبادات فكر ، لليد و الجوارح كرجل و السمع و البصر و هكذا البدن و العقل ، الفكر {.....وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.....} (آل عمران 191). مرّ شريح القاضي على قوم يلعبون ، قال مالي أراكم تلعبون؟ ، قالوا: فرغنا (كان عندنا شغل و فرغنا) ، قال: ما بهذا أمر الفارغ ، بل أمر باستثمار الفراغ في طاعة الله تعالى. المسلم مشغول دائماً بما يعمر دنياه و آخرته ، و عنده العمل للآخرة أسبق و الجهد فيه أكبر ، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ (هذا أولا) وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (هذا ثانيا).....} (القصص 77) ، و قال في الآخرة {.....فَاسْعَوْا.....} (الجمعة 9) ، و قال في الدنيا {.....فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.....} (الملك 15) ، هذا دليل على المسارعة إلى عمل الآخرة أكثر. قال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم سَبهلَلاً لا في عمل دنيا و لا في عمل آخرة (سبهللاً يعني فارغاً).
مشكلة الفراغ أيها الأخوة في وقتنا مشكلة كبيرة جداً ، وقع الشباب بسببها في المخدرات ، في الفواحش ، في الأسفار المحرمة ، في الاجتماعات و موضوع الشِلليّة القاتلة ، القاتلة للوقت ، القاتلة للجهد ، القاتلة للإنتاج. الغَبن: خسارة في البيع. مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ. الغَبن: فوات الربح (أن تذهب السلع على الإنسان بشيء أقل من ما تستحقه و تساويه) و هكذا يذهب الوقت عليهم ، يذهب هدراً ، يذهب بلا فائدة. إن صاحبه مغبون خاسر. (يوم القيامة: يوم التغابن) ، قال تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ......} (التغابن 9)، يظهر فيه الغبن و الخسران ، الكافر خسر بترك الإيمان بالله ، و المؤمن المسلم تظهر خسارته بالأوقات التي مرت عليه لم يذكر الله فيها ، [اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك] ، و هكذا في الحديث الحسن. أعمل ما ينفعك في هذه الأشياء:
في الحياة ، الصحة ، الفراغ ، الشباب ، الغنى ، قبل أن تأتي أشياء تمنع من شغل ، من مرض ، من فقر ، من هرم. و هكذا هذه الخمسة لا يعرف قدرها إلا بعد زوالها و زوال الأولى منها و هي الحياة بالموت لا يمكن استدراك شيء بعده. قال الحسن البصري:
يا ابن آدم إنما أنت أيام ، كلما ذهب يوم ، ذهب بعضك.
دقات قلب المرء قائلةٌ له إن الحياةَ دقائقٌ و ثواني
و قال الشاعر:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها و كل يوم مضى جزء من العمر
وقت الإنسان عزيز ، نعمة سيسأل عنها يوم القيامة ، إذاً يجب المحافظة عليه. كذلك المال الذي يؤتاه ، يجب المحافظة عليه.
فما بالكم أيها الأخوة إذا علمنا التالي من ما ينفق من الأشياء العجيبة التي تنفق في الترويح و التسلية عند الناس اليوم.
في عام 2001 أنفق على الألعاب بالكمبيوتر في مبيعات الألعاب بأمريكا فقط 6.35 بليون دولار ، بارتفاع 8% عن عام 2000. و بيع من أجهزة الألعاب فقط 225 مليون جهاز.
و العجب العجب ، لقد وجد أن الألعاب لم تعد للأطفال ، إنها للمراهقة المتأخرة ، بل مراهقة ما بعد الأربعين. لقد وجّهت في الاجتماعات التجارية هناك النصائح للمستثمرين و رجال الأعمال بأن ألعاب الكمبيوتر و الفيديو ليست للأطفال ، و إنما لكل الناس ، هذه هي الحقيقة ، 40% من الذين يلعبونها فوق 36 سنة ، 26% للفئة العمرية بين 18 و 35 سنة ، و 34% أقل من 18 سنة. هؤلاء الذين يشترون الألعاب إناثهم أكثر من ذكورهم. أما بالنسبة للعب و الممارسة فيه ، فإن الذكور أكثر من الإناث.
اسمع هذه الإحصائية العجيبة: الذين لعبوا في حياتهم 5 سنوات فأقل (مجموع فترة اللعب 5 سنوات فأقل) 44%. الذين ذهب من عمرهم من 6 سنوات إلى 10 سنوات (ذهبت كلها في الألعاب) 26%. من 11 سنة إلى 15 سنة (الذين ذهب من أعمارهم من 11 سنة إلى 15 سنة في اللعب) 13%. اللي ذهب من عمره أكثر من 16 سنة في اللعب 17%. هذه الإحصاءات شاهدة على ما نقوله من هذا الهوس الغربي بالألعاب الذي يتبعه أبناء الشرق اليوم ، و يقلّد فيه شبابنا الكفار فيما يفعلونه.
16 بليون دولار إستئجار أفلام و شرايط فيديو. 8 بليون تذاكر سينما. 4.6 بليون مبيعات أقراص دي في دي (DVD). 6 بليون إستئجار و مبيعات الدي في دي ( الأقراص الممغنطة). 25 مليون مبيعات محركات أقراص الدي في دي. 96 مليون مبيعات في سي أر بلاير VCR player)) هذه الأجهزة التي تستعمل في الألعاب. و كذلك 6.5 بليون دولار مبيعات ألعاب الفيديو. 11 بليون مبيعات الأقراص الموسيقية الممغنطة المدمجة. و هكذا يستمر الإنفاق في هذا الشيء العجيب. عندما نسمع هذه الأرقام المهولة عن هذه الأشياء المضيّعة للأوقات ، لتعلموا بعد ذلك كم يذهب من الأعمار و كم يذهب من الأموال ، مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه و سلم: [نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ] و [اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك ، و صحتك قبل سقمك ، و فراغك قبل شغلك ، و شبابك قبل هرمك ، و غناك قبل فقرك [هذه إذاً قضية الترفيه و الألعاب الموجودة في العالم اليوم ، إنها رحلة شقاء و ضياع أموال و ضياع أعمار ، عندما لم تضبط بالميزان الشرعي انفتح الباب على مصراعيه. صارت القضية تدخل بلا رقيب و لا حارس. و تهجم بلا إنذار ، و تقتطع من أوقات و أعمار شبابنا نساءً و رجالاً ، بل حتى الكبار و الصغار ، ما تقتطع. فصارت الأمة متخلفة، لا هي في الدنيا قد عملت ما ينبغي و لا في أمور الدين بطبيعة الحال.
إن مسألة الترويح وسط بين طرفين من الناحية الشرعية ، قال الأبي رحمه الله : سنة الله تعالى في عالم الإنسان ، أن جعله متوسطاً بين عالم الملائكة و عالم الشياطين ، فمكّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون و يسبّحون الليل و النهار لا يفترون. و مكّن الشياطين في الشر و الإغواء بحيث لا يغفلون و جعل عالم الإنسان متلوناً ، فيه من هذا و هذا. لكن نحن ما هو الوسط لدينا ، روى مسلم رحمه الله عن حنظلة الأسيدي [قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج و الأولاد و الضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا و أبو ى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج و الأولاد (يعني خالطناهعني الأشغال و الحرف) نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم و الذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر (هكذا طيلة الوقت) لصافحتكم الملائكة (صرتم مثل الملائكة صافحتكم الملائكة و ظهرت لكم لأنكم تساويتم معهم ، صرتم طبعاً آ فرشكم وفي طرقكم
ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات]. إذاً لا يكون الرجل منافقاً إذا كان في وقت على الحضور و في وقت على الفتور -لكن أي فتور انتبه- قال ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم و في ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم. فهذا إقرار من النبي عليه الصلاة و السلام بتقلبات النفس بين مجالات الجد و أنماط العبادة من جهة ، و بين متطلبات النفس من مرح و انبساط من جهة أخرى. حنظلة يقول عافسنا الأزواج والأولاد خالطنا أزواجنا ، خالطنا أولادنا ، و ذهبنا للحرفة ، ذهبنا للصنعة ، ذهبنا للزراعة ، ذهبنا للعمل. إذاً هذه المخالطة للزوجات و أولاد مهمة ، هذه الملاعبة للزوجة و الولد مهمة ، هذا الذهاب للمصنع و المزرعة ، و هذا الذهاب للحرفة مهم. و لذلك ما أنكر عليه هذا ، لكن المشكلة عندما تضيع الأوقات سبهللاً ، عندما تضيع الأوقات في السبهللة ، لا في عمل الدنيا المفيد و لا في عمل الآخرة ، حرق أعصاب ، تضييع أموال ، تدمير النفس و هكذا ذهاب الأوقات ، لا منفعة ، ما هي المنفعة عندما يذهب كل هذا الوقت؟ ، ليس من الصحيح أن يقال للناس أنتم 24 ساعة في المساجد ، ترفعون أكفّكم و ألسنتكم في الأذكار دائماً و أعينكم في المصاحف. النفس لها حدود ، النفس تحتاج إلى ترفيه و ترويح ، لكن بالمباح ، لكن بالقدر الصحيح. قال ابن مفلح ، قال في الفنون قال بعض المحققين –يعني نفسه- : ما أدري ما أقول في هؤلاء المتشدقين في شريعة بما لا يقتضيه شرع و لا عقل ، يقبّحون أكثر المباحات و يبجّلون تاركها ، حتى تارك التأهل و النكاح ، و العبرة في العقل و الشرع ، إعطاء العقل حقه من التدبر و التفكر و الاستدلال و النظر و الوقار و التمسك و الإعداد للعواقب ، و كان عليه السلام يلاعب الحسن و الحسين و يداعبهما ، و سابق عائشة ، و يداري زوجاته ، (إلى أن قال): و العاقل إذا خلا بزوجاته و إمائه ، ترك العقل في زاوية ، و داعب و مازح و هازل ليعطي الزوجة و النفس حقهما ، و إن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل. هو لا يقصد أنه يصبح مجنوناً ، لكن يقصد الآن يترك الجد الذي كان عليه ، و يصبح في حالة تناسب حالة الزوجة و حالة الأطفال ، يعني أنت إذا رأيت شخصاً يمازح طفله –لو كان عالماً من كبار العلماء يجتمع عنده الألوف مثلاً- إذا لاعب طفله ، كيف يكون مع الطفل؟ ، هكذا يجلس في سمت و جد و صمت و ذكر و دروس و علم ، أم أنه يأتي مع الطفل بما يناسب الطفل؟ لا شك الثاني. و هكذا المرأة تحتاج إلى انبساط ، تحتاج إلى طرف و مزاح حتى تستمر الأمور و إلا لا تتحمل ، الشريعة لماذا أباحت للمرأة ضرب الدف في الأعراس مثلاً؟ ، الله يعلم ما يصلح النساء ، يعلم أنه لابد من شيء من اللهو لهذه المرأة ، هكذا طبعهن ، فأعطاهن فسحة بقدر ، ليس هذه الموسيقى التي تصدح و إنما ضرب دف بين النساء ، غناء مباح بين النساء ، و هكذا. لماذا؟ ، لماذا كان الترويح؟
موقف الإسلام من الترويح كان موقفاً وسطاً يراعي الغريزة و يراعي الحاجة النفسية. الإسلام لا ينظر إلى المسلم على أنه ملك يمشي على الأرض ، بل إنه يعترف به مادة و روحاً و عقلاً و شهوة ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (لكنه ذكّره فقال) ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران 14). و لذلك لا تنغمس في الشهوة المحرمة أصلاً ، و ابتعد عن أن تشغلك الشهوة المباحة عن طاعة الله ، لا تصدك عن طاعة الله ، و لا عن ذكره.
أيها الأخوة لقد قالوا في فوائد اللعب و الترويح ما قالوا ، قالوا إنها سبيل لراحة العضلات و الأعصاب ، لكن بعض الألعاب أصلاً فيها إتعاب للعضلات و الأعصاب. و قالوا إن اللجوء للعب لتفريغ الطاقة الجسمية و النفسية ، لكن أحياناً الصغار يلعبون أكثر لأنه ليس أمامهم ما يفرّغون فيه طاقتهم الجسمية و النفسية إلا اللعب. و بعضهم يقول القصد من اللعب إعداد الطفل للحياة المستقبلية ، و هذا فيه صحة كبيرة. و قيل الإنسان يتّجه إلى اللعب ليدفع عن نفسه الملل و الضجر و ضيق الصدر و ما إلى ذلك (ضغط المكتب ، ضغط العمل ، ضغط الشركات ، ضغط المدير في العمل و هكذا). ّ -يقول ابن الجوزي- مر بي حملان تحت جذع ثقيل و هما يتجاوبان بإنشاد الشعر و كلمات الاستراحة و ربما يلحنان هذا الشعر و هما يقولانه ، و أحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله ، و هكذا ، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما ، و ثقل الأمر ، و كلما فعلا هذا هان الأمر ، فتأملت في السبب ، فإذا به تعليق فكر كل منهما بما يقوله الآخر ، و يطرد به هذا الثقل المحمول ، فينقطع الطريق ، فأخذت من هذا إشارة عجيبة ، و رأيت أن الإنسان قد حمّل من التكاليف أموراً صعبة ، و من أثقل ما حمّل ، مداراة نفسه ، و تكليفها الصبر عما تحب ، و على ما تكره ، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية و التلطف للنفس.
الشريعة الإسلامية عاملت الإنسان على أساس مراعاة هذه الغرائز و الحاجات الجسدية ، لكن لننظر كيف كان الترفيه في المجتمع الإسلامي الأول ، هل كان في ترفيه في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة؟ ، هل كان هناك ألعاب؟ ، و الألعاب كانت في أي مجال؟
كان النبي صلى الله عليه و سلم يمزح لكنه لا يقول إلا حقاً ، [قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا] (رواه الترمذي ، و هو حديث صحيح) ، لقد أذن النبي صلى الله عليه و سلم للحبشة أن يلعبوا في مسجده لعبة جهادية ، استعراضاً عسكرياً عن طريق اراب ، و أذن النبي عليه الصلاة و السلام لعائشة أن تنظر ، و سترها بردائه و هي تنظر إلى لعبهم. قال ابن حجر: اللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً ، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب و الاستعداد للعدو. قال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين ، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين و أهله جاز فيه ، و في الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح. إذاً هذه اللعب بالحراب من قبل الحبشة الذين لعبوا بها لم تكن مجرد لهو و تسلية فقط ، فيها نوع من التدريب العسكري ، و كذلك تقول عائشة رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره و أنا جارية (يعني صغيرة في السن) لم أحمل اللحم و لم أبدن (أي أنها لم تصبح بدينة في ذلك الوقت) فقال للناس تقدموا ، فتقدموا ، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم (بعد سنوات) و بدّنت أو بدنت ، و نسيت خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس تقدموا ، فتقدموا ، ثم قال تعالي حتى أسابقك ، فسابقته فسبقني ، فجعل يضحك و هو يقول هذه بتلك. و سابق النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه على الخيل المضمّرة و هكذا قال [ألا إن القوة الرمي] و رمى معهم هذا الحديث الذي رواه سلمة بنلأكوع ، سلمة متخصص في رواية أحاديث الجهاد لاهتمامه به رضي الله عنه ، [مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (يعني يترامون بالسهام) فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا (الآن هناك منافسة بين فريقين ، انضم النبي عليه الصلاة و السلام إلى أحدهما ، فأمسك الفريق الآخر بأيديهم و توقفوا و رفضوا أن يكملوا) .........فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكم لا ترمون قالوا كيف نرمي وأنت معهم قال النبي صلى الله عليه ارموا فأنا معكم كلكم]. هذا حديث النبي صلى الله عليه و سلم في الحث على السباحة [كــل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو و لهو أو سهو إلا من أربع خصال: مشي الرجل بين غرضين (يعني الرمي بالسهام) وتأديبه فرسـه ، و ملاعبته أهله ، و تعلم السباحة].(صححه الألباني). هكذا إذاً المجال لهذه الأمور فيها أجر ، ملاعبة الأهل ، تعلم السباحة ، مشي الرجل للرماية ، و تأديب الفرس ، و تدريب الفرس ، و تعويد الفرس. للأطفال في فسحة أكبر: البنات (العرائس) الأرجوحة ، عن عائشة قالت: [تزوجني النبي صلى الله عليه و سلم و أنا بنتين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت..... (قالت بعد ذلك) .....فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدارِ....) إلى آخر القصة في تجهيزها للرسول صلى الله عليه و سلم)]. إذاً كانت عائشة تلعب على أرجوحة مع بنات ألعاب تناسب البنات. النبي عليه الصلاة و السلام كان يدرك هذه الحاجة الفطرية في نفس زوجته صغيرة السن. تقول عائشة [كنت ألعب بالبنات.... (ليس باربي و ساندي) هذه هي اللعب التي على هيئة الهيكل العام من القطن أو الصوف ، ليست مفرعة بمايوهات البحر التي تربي البنات على التعري ، و إنما اللعب من العهن ، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم بأن زوجته عندها ألعاب ،...وكان لي صواحب يعلبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه، فيسرع بهن إليَّ (يتيح المجال لهن للدخول إلى عائشة) فيلعبن معي]. و هكذا كان الترفيه للأطفال بالأشياء المباحة ، و البنات ، السماح باللعب بالبنات، هذه التي فيها الهيكل العام: رأس و يدان و رجلان و جسم. هيكل عام ، ليس فيها التفاصيل الموجودة الآن: رموش ، و تغلق عينيها و تفتحهما ، و تمشي ، و تتكلم ،....... و إلخ. هذا الهيكل العام من اللعب مفيد لتنمية روح الأمومة عند البنات و روح الرعاية للأطفال عند البنات ، هذه قضية مهمة في الشرع و لذلك سمح لهن بهذا. مصلحة تعويدها على تربية الأطفال و مراعاة حاجة الطفل. قال ابن حجر: استدل بهذا الحديث على جواز إتخاذ صور البنات و اللعب من أجل لعب البنات بهن و خص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور و إنما أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن و أولادهن. كان الألعاب تعطى للأولاد –ألعاب من العهن و الصوف- تعطى للأولاد لكن ليست فقط لمجرد اللهو و اللعب. عن الربيع بنت معوذ قالت [أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم قالت فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن (لكن ما فائدة اللعبة ، هل فقط ليلعب؟؟ ليصبر باللعب على العبادة) ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار]. و في رواية مسلم : و نصنع لهم اللعبة من العهن ، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم ، و قد يورد بعض الناس إشكالاً فيقول ما معنى حديث: [.........كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق]. لأن ظاهر الحديث هذا الذي رواه الترمذي ، أن غيره باطل و إثم و لا يجوز ، فأجاب العلماء: إن حديث كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا هذا ، يعني ليس مراده أنه حرام و إنما يريد أنه عاري من الثواب، وأنه للدنيا محضاً ، لا تعلق له بالآخرة ، إلا هذه الأربعة و ما جرى مجراها: ملاعبة الزوجة ، تأديب الفرس ، تعلم السباحة ، و كذلك الرماية. إذاً هذه الأشياء لها تعلق بالآخرة ، يعني فيه أجر لو الإنسان قام بها و عملها و فعلها ، الأشياء الأخرى البعيدة عن هذه ممكن تكون مباحة لكن ليس فيها أجر. فقوله كل ما يلهو الرجل المسلم (يشتغل و يلعب) باطل (يعني لا ثواب له) طبعاً إذا صد عن ذكر الله يصير فيه عقاب ، و إذا اشتمل على محرّم كالصليب و موسيقى و صور ذوات الأرواح ، إذاً هذه محرمات يأثم بها ، و هكذا. قال في هذه الأشياء: رمي القوس و تأديب الفرس و ملاعبة الأهل ، فإنهن من الحق ، إذاً يترتب عليها ثواب ، هذا المقصود. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحديث: الباطل من الأعمال ما ليس فيه منفعة فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفعها ، مثل الأطفال الصغار ، الأطفال الصغار قد تكون الأشياء التي يلعبون بها لا تنفع ، لكن يشترط أن تكون لا تضر هذه مهمة ، فتجعل هذه الأشياء التي ليس فيها منفعة لهؤلاء الصغار ، و قال أيضاً : و كل لذة أعقبت ألم في الدار الآخرة أو منعت لذة الآخرة فهي محرمة مثل لذات الكفار و الفساق بعلوّهم في الأرض و فسادهم ، و ذكر أمثلة من المحرمات الأخرى. و أما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار و لا ألماً (لا جنة و لا نار) لا تؤدي إلى سخط الرب و لا إلى مرضاته و لا تمنع لذة دار القرار ، فهذه لذة باطلة إذ لا منفعة فيها و لا مضرة ، و زمانها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر ، و هي لا بد أن تشغل عن ما هو خير منها في الآخرة. فإذاً لو هذه ما كانت حرام يقول شيخ الإسلام لابد أن تجاهد النفس في أن تترك هذه الأشياء التي هي ليس فيها ثواب و لا عقاب. المسلم يجب أن يرتقي بنفسه ، و كل ما أعان على اللذة المقصودة من الجهاد و النكاح فهو حق. و لذلك بعض الشافعية قالوا أن مسابقات الغوص يجوز جعل الجوائز فيها لأعانتها في المعارك البحرية مع أن الحديث [لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر] المسابقات التي تعين على الجهاد ، أضاف بعضهم مسابقة الغوص. و كان للغواصين المسلمين شأن عظيم في المعارك البحرية ، يغوصون تحت سفن النصارى –قبلها- و يصعدون بعدها يوصلون كتب صلاح الدين و المؤن أو يوصلون الذهب و الرسائل و الخطط العسكرية إلى عكا المحاصرة و إلى غيرها. إذاً مسألة الألعاب التي ليس فيها مضرة في الآخرة و لا منفعة في الآخرة ، هذه يطلق عليها في الشرع كلمة باطل ، لهذا السبب ينبغي للمسلم أن يحاول التخلص من هذا البند أو هذه القضية ، و يجعل لهوه فيه منفعة ، كما إذا لهى مع الزوجة و لاعب الزوجة و لهى مع الأولاد و لاعب الأولاد. يعني أنت الآن تلعب لعبة كمبيوتر لنفسك (وحدك) لكن ممكن تلعبها مع ولدك و تثير فيه أشياء و تداعبه بها و تتداخل معه نفسياً بها. إذاً أنت ممكن أن تجعل الشيء الذي تقوم به في بعض الأحيان لا منفعة فيه ، تجعل فيه منفعة في أحيان أخرى.
موقف الشريعة من الترفيه و الترويح واضح على ضوء ما تقدم ، و نضيف إليه من أفعال الصحابة. قال علي رضي الله عنه: روّحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت. قال أبو الدرداء :إني لأستجم لقلبي بشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق. قال بكر بن عبد الله المزني عن الصحابة: [كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال] (رواه البخاري في الأدب المفرد). و التبادح: الترامي بشيء رخو. (و صححه الألباني في السلسلة الصحيحة)
جرت عادت الفقهاء و المحدثين في مجالس الحديث و العلم ، أنهم أحياناً يطعمّونها بأشياء من النوادر و الفكاهات و إنشاد الشعر و الحكايات و القصص ، لماذا؟ للترويح عن أنفسهم ، للترويح عن الطلاب ، كانوا إذا أخذوا في مجالس ابن عباس التفسير و الحديث و الفقه و كذا ، قال هاتوا شيئاً من الشعر و هكذا ، قال العراقي:
و استحسن الإنشاد في الأواخر بعد الحكايات مع النوادر.
و عقد الخطيب في كتابه الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع ، باباً بعنوان: ختم المجالس بالحكايات و مستحسن النوادر و الإنشادات. كانوا يسمونها الأبذار (يعني البهارات، التوابل). كنّا عند حماد بن زيد –يقول سليمان بن حرب- يحدثنا بأحاديث كثيرة ثم قال خذوا في الأبذار فحدثنا بالحكايات ، هذه الحكايات بمنزلة التوابل يستعين بها المسلم على الاستمرار في طلب العلم و الحديث كهذه البهارات التي توضع على الطعام. و كان بعض العلماء يكثر من الطرف و بعضهم يقل منها ، هذه أشياء نفسية بحسب نفسية العالم مثلاً. لقي رجل الشعبي و امرأته –و لعل هذا الرجل كان من المغفّلين في الطريق- قالوا له روح اسأل الشعبي ، قال فين ، قالوا هناك ، راح وجد رجل و امرأة ، قال أيكم الشعبي؟ ، فأشار الشعبي إلى امرأته. قال بن خلكان: كان لطيف الخلق مزّاحاً ، خرج الشعبي رحمه الله مرة فحصل أن سأله رجل ، هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ ، قال نعم ، قال الرجل: مقدار كم؟ (يعني شوف السؤال) قال: حتى يبدو العظم. و دخل رجل على الشعبي ، قال: ما تقول في رجل شتمني أول يوم من رمضان ، هل يؤجر؟ ، قال إن قال لك يا أحمق فإني أرجو ذلك. و جاءه رجل قال: إني تزوجت امرأة فوجدتها عرجاء ، فهل لي أن أردها؟ ، قال: إن كنت تريد أن تسابق بها ، فردها. و كذلك فإن الأعمش –رحمه الله- على ما كان فيه من الشدة و العصبية أحياناً لأنهم أكثروا عليه ، الطلاب أكثروا عليه حتى ضجر ، لكن كان له مواقف ، فمرة احتاج إلى المال فذهب يؤجّر نفسه عند شاطئ دجلة –شاطئ النهر- فهو إذا جاءت السفينة يذهب هو يغوص في الطين إلى السفينة و يحمّل واحد على ظهره إلى اليابسة ، يقطع به المسافة هذه التي فيها الطين مقابل مال ، فحمل رجل مرة استأجره جندياً على ظهره ، هذا الجندي من جهله لمّا ركب على ظهر الأعمش و هو يخوض به في الطين ، قال الجندي سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين ، فلما توسط الأعمش في وسط الطين ألقاه عن ظهره و قال: و قل ربي أنزلني منزلا مباركاً و أنت خير المنزلين.
فكانت المواقف هذه موجودة في حياة السلف ، موجودة في دروسهم ، تحصل لهم مواقف من هذا الباب ، و كان المشايخ يأخذون طلابهم ، و حتى مشايخنا المعاصرين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله لمّا كان في الخرج قبل أن ينشغل كثيراً و الشيخ محمد بن صالح العثيمين- إلى مزرعة ، إلى استراحة ، إلى بركة سباحة ، يسبح مع الطلاب ، و يشتركون معهم في مسابقة العدو ، و هكذا. إذاً مسألة الترويح موجود و لكن كان مع أشياء من الجد كثير. مشكلتنا الآن أن حياتنا لهو كثير مع جد قليل ، بل إن بعض الناس لا يكاد الجد يوجد في حياتهم أصلاً. و لذلك فإن المتأمل المقارن لحياتنا بحياتهم ، يجد قضية اللعب عنهم أو اللهو أو الترفيه كانت موجودة بنسبة ، كانت موجودة بقدر ، الآن مفتوحة ، الآن صارت هدفاً ، صارت تضيع بها الأمور الدينية و الدنيوية. إذاً هذه المسألة انحراف طرأ الآن على حياة الناس ، أصبح الترويح هو الأصل ، انتبهوا لهذه القضية ، كان أمراً طارئاً يؤخذ منه بقدر في الماضي. الآن صار أمراً أساسياً لابد منه ، يستعدون له غاية الاستعداد ، تنفق فيه الأموال ، الآن ذكرنا بالبلايين الإحصائيات بالبلايين ، الأفلام و تذاكر السينما و الأقراص المدمجة ، و غير ذلك الألعاب ، تنفق الآن يا جماعة لو راجعنا هذه الأرقام ، في أمريكا مبيعات ألعاب الكمبيوتر 6 بليون دولار ، و الذين خسروا من حياتهم 5 سنوات 44% ، فوق 16 سنة لعب 17%. إذاً المسألة الآن صارت قضية يعني صار صناعة الترفيه الآن صناعة في العالم ورائها شركات (سوني ، ميكروسوفت،...إلخ) ، تطرح ألعاب في السوق و أشياء تستهلك اللعبة الواحدة ، تأخذ أسابيع و شهور حتى تنتهي (المرحلة الأولى ، و الثانية ، و الرابعة ،.......) حتى تطلع اللعبة الجديدة ، و هكذا. الأولاد من ألعاب إلى ألعاب ، من أكثر ما فتنهم هذا السوني بلاي ستاشن ، الذي صار شيئاً فيه هم كالمجانين ، مدمنين –إدمان كامل- على هذا الأمر. لا يمكن الحديث عن اللهو و اللعب و الترفيه الآن بشكل بريء لأن التنصير دخل فيه ، الصلبان دخلت فيه ، صور النساء الفاضحة دخلت فيه ، دخلت العقائد الفاسدة فيه ، قضية السحر و الشعوذة فيه ، قضية الميسر و القمار موجودة فيه ، الكنيسة و الصليب موجود فيه. إذاً ما صار الآن ترفيه بريء ، لا من جهة الوقت و لا الأموال المنفقة فيه و لا ما يتضمنه من المفهومات و العقائد و الأفكار. القضية الآن صارت منهجية مخطط لها ، أعداء الإسلام حريصون على أن يعيش المسلمين حياة لعب ، هم أنفسهم أصلاً عندهم لعب و لهو كثير و يريدون أيضاً أن ينتقل إلينا و نحن ربما حتى لو ما أرادوا من التشبه و إتباع الهوى نأخذ منهم ، و تجارنا يريدون أن يربحوا ، فيشترون من منتجاتهم ، يسوّقونها عند أبناء المسلمين ، تباع بهذه الكميات الهائلة. لقد نجحوا في استخدام الترفيه و الملاهي كسلاح لإبقاء المسلمين في حياة اللهو و اللعب و لكي يغزوهم في عقائدهم من خلال الألعاب. قال اليهود في البروتوكول السادس من بروتوكولات حكماء صهيون: سنشجع حب الترف المطلق –اسمع العبارة- سنشجع حب الترف المطلق ، إن ما تقدمه أدوات التسلية و الترفيه من مسرحيات و مسلسلات و أغاني و مباريات صارت تشكل الآن قسطاً كبيراً من الدعوة إلى إشاعة الانحلال الخلقي من جهة و المسخ الفكري العقائدي من جهة أخرى. ذابت شخصيات ، وقعت في موالاة أعداء الله و تعظيمهم و نسيان عداوتهم باسم الروح الرياضية. في البروتوكول الثالث عشر قال اليهود: و لكي تبقى الجماهير في ضلال ، لا تدري ما ورائها و ما أمامها و لا ما يراد بها ، فإننا سنعمل على زيادة صرف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج –اسمع- وسائل المباهج و المسلّيات و الألعاب و ضروب أشكال الرياضة و اللهو ، للملذات و الشهوات و الإكثار من القصور المزوّقة و المباني المزركشة ، ثم نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنية رياضية ، و من كل جنس فتتوجه أذهانها –أذهان الناس- إلى هذه الأمور و تنصرف عما هيأناه فنمضي به إلى حيث نريد ، فيسلم موقفنا ، و هو الموقف الذي لو أعلناه بارزاً مكشوفاُ بغير إصطناع هذه الوسائل الملهية ، لوقعنا في التناقض أمام الجماهير ، ثم إن الجماهير بحكم ما ألفته و اعتادته من قلة التفكير داخل آفاقها النفسية ، و لا قدرة لها على الاستنباط تراها شرعت تقلدنا ، و تنسج على منوالنا في التفكير إذ نحن وحدنا من يقدم إليها المناحي الفكرية ، وطبعاً لا يكون هذا إلا على يد أشخاص لا شك في إخلاصهم لنا.
يتبع ..