[rtl]ثم أما بعد:[/rtl] [rtl]فكم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، والملاحظ أنه مع هذه المدَنِيَّة المادية التي طغت على الناس بدأت الأوصار تضعف والألفة تتقطع، بل تفقد في بعض الأحيان، وشتان بين مجتمع تسوده الألفة والمودة والإخاء والحب، ومجتمع يشعر بالفردية، يشعر بالأنانية، فالفرد بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف يعيش حياة نفسية سوية، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة ويشعر بعزلة ـ قاسية ـ عن مجتمعه.[/rtl] [rtl]كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.[/rtl] [rtl] انطلاقًا من هذا نحاول في هذه الخطبة والتي تليها إن شاء الله أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي في مقام الأخوة في الله، والحب في الله، والإخاء في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة.[/rtl] [rtl] يقول سبحانه وتعالى ـ قبل كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الفتح:10].[/rtl] [rtl] ووصف نعيم أهل الجنة المعنوي أو ذكر جانباً منه: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ [الحجر:47].[/rtl] [rtl]فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.[/rtl] [rtl] قال ـ والحديث ثابت في الصحيحين، بل هو من أشهر الأحاديث، حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))، وفي الحديث القدسي يقول فيما يرويه عن ربه: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) يغبطهم من؟ يتمنى منزلتهم من؟ النبيون والشهداء، والحديث رواه أحمد وهو حديث صحيح.[/rtl] [rtl] وفي الحديث القدسي الآخر يقول : ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ)) رواه أحمد كذلك، وهو حديث صحيح.[/rtl] [rtl] وقال ـ والحديث رواه مسلم، وهو حديث عظيم ـ برواية أبي هريرة: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرسل له سبحانه وتعالى ملكًا من الملائكة في مدرجته، فلقاه في الطريق وقال: إلى أين؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.[/rtl] [rtl] أحبه الله بحبه لفلان؛ لأنه يحبه لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى على أمثالكم قول النبي في الحديث المتفق عليه: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) وذكر منها ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) نقول هذا في وقت طغت فيه المادة، وأصبحت العلائق في أغلب الناس تقاس بالمناصب والمصالح، لعلنا أن نفكر في هذه الفضائل فنسموا بأنفسنا أن تكون علائقنا مثل علائق البهائم.[/rtl] [rtl]أما أقوال السلف: يقول محمد بن المنكدر ـ رحمه الله تعالى ـ كما ذكره ابن كثير في البداية، قال: لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟ قال: "إلتقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".[/rtl] [rtl]وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان".[/rtl] [rtl]وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه، وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم". يضيعهم، يبدد إخوانه بسبب جهله بأصول المودة والعشرة.[/rtl] [rtl]تأمل هذه الأقوال الجميلة، آيات الله، وأحاديث رسول الله، أقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.[/rtl] [rtl]من الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان).[/rtl] [rtl]إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة، هناك مفاسد كثيرة نذكر منها في هذه الخطبة:-[/rtl] [rtl] اسأله سبحانه وتعالى أن يربينا وإياكم على معاني الإسلام من إيثار وغيره، أصبح الإسلام مجرد مفاهيم، عاريةعن تطبيق إلا من رحم الله وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24].[/rtl] [rtl]إذاً إذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، لا تطلب منه حاجتك، اطلب منه المشورة، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، لا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه, لذلك فرق العلماء بين الطمع فيما بين أيدي الناس وعرض المشكلات، عرض المشكلات، قد تشير عليه بمشورة ولا تقدم له شيئاً، وتكون هذه المشورة من أعظم ما يقدم للإنسان، تأمره بالصبر, بالاستعفاف، بأشياء كثيرة وكلها مأثورة في ديننا العظيم.[/rtl] [rtl] ومن الأمور التي تقدح في الأخوة وتبعثر الأصدقاء: المعاصي، المعاصي وتضييع الطاعات والقربات، والتنافس في المعاصي عياذاً بالله، سبحان الله إذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)) في روايتين قال : ((والذي نفس محمد بيده ما توادّ اثنان فيُفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهم)) حديث صحيح رواه أحمد.[/rtl] [rtl]سبحان الله، الذنوب هذه تمحق الشركات، ((فإن صدقا بوركا لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما))، والشريكان في بركة إذا صدقا، وإذا تسربت المعاصي والنيات تبعثرت الأوراق، وهكذا العلائق والإخوة.[/rtl] [rtl]لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "الجواب الكافي" قال: "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه" لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، سبحان الله المعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله فانقطعت الصلة مع أحبته في الله، سبحان الله العظيم.[/rtl] [rtl]وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.[/rtl] [rtl]أما فرسان المعاصي ورجالات المنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم من الأيام في ضحكات وجلسات وسفرات ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، سبحان الله العظيم.[/rtl] [rtl]أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حبًا في الله، ويزكي نفوسنا ويرفع همومنا.[/rtl] [rtl]تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.[/rtl] [rtl] لذلك عبد الله بن عمرو بن العاص يصف النبي بقوله: (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا) لم يكن فاحشًا يعني لم يكن قبيحًا في قوله أو فعله ولا متفحشًا ولا يتعمد ذلك، سجية فيه الكلام الطيب، ولكن بعض الناس عياذاً بالله حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب ينثر القيءَ والصديد يمينًا وشمالاً لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه أعوذ بالله رفع الصوت والسباب والشتم والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات ويقضي على العلاقات.[/rtl] [rtl]كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام؛ لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث ـ يعني من حديث النبي وربما بمسألة علمية ـ أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ" ذكر هذا الذهبي في السير في المجلد الخامس عن عطاء رحمه الله تعالى.[/rtl] [rtl]وقال الشاعر:[/rtl] [rtl] وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعلـه أدرى بـه[/rtl] [rtl]أدرى بفقه الحديث وسنده ومراميه ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.[/rtl] [rtl]بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا، أنا مر عليّ هذا كأنه يقول: أنت جاهل فقدرك أن تكون مستمعًا، سبحان الله العظيم.[/rtl] [rtl] والنبي يجلس يستمع لمن؟ لأحد رؤوس الكفر عتبة بن الربيعة يتكلم ويتكلم حتى سكت، ولما سكت لم يتكلم النبي إلا بعد هذه الجملة ((هل فرغت يا أبا الوليد)) تريد إكمال تريد حلقة تكملها، تريد استدراكاً، قال: لا، قال: ((الآن اسمع)) أدب، سبحان الله العظيم، يدعو إلى الكفر والباطل والزندقة، والنبي يدعو إلى الحق بكتاب الله ومعجزة ظاهرة، ومع ذلك يعطيه درسًا في أدب الاستماع.[/rtl] [rtl] كذلك من مفسدات الأخوة ـ مما يتعلق بالأدب ـ المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل، لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها، لها معاني، لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا ومدروسًا ملائمًا، كثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة أو تعليقه سخيفة، أليس كذلك؟[/rtl] [rtl]أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.[/rtl]
|