فأما بعد فأوصى نفسى وإياكم، معاشر المسلمين، بتقوى الله امتثالا لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً 2 . أيها المسلمين، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التى تصيب بعض بنى الإنسان، وكيف يحفظ الله منها. حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه و ((تورد الرجل القبر وتدخل الجمل القدر3)) إنها "العين" و ((العين حق، ولو كان شىء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا4)) كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. جاءت الإشارة إلى العين فى القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون 5. وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذا آمنا، ومعتقدا صادقا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد وما أغنى عنكم من الله من شيء . وجاء فى القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له، ومحاولة إنفاذه بأبصارهم وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون 6 . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: ( ليزلقونك ) أى يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك... قال ابن كثير: وفى هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة(3). إخوة الإيمان: وينبغى أن يعلم أن العين إنسية وجنية، بمعنى إنها تصيب من الجن كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة، رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية فى بيتها، رأى فى وجهها سفعة:((بها نظرة استرق لها (4))) . والسفعة علامة من الشيطان، وقيل ضربة واحدة منه(5). والمعنى: بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنة الرماح (6). ولهذا ((كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك(1))). عباد الله: ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله، حتى قال عليه الصلاة والسلام ((أكثر من يموت من أمتى بعد قضاء الله وقدره بالعين (2))). فلا ينبغى الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها.. فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شىء إليها.. وفوق ما مضى من الأدلة يرد ابن القيم رحمه الله على المنكرين لأثر العين بقوله: (فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على أختلاف مللهم ونحلهم، لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا فى سببه، وجهة تأثير العين (3)..). أما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام، ويحاصرهم القلق، ويضعف عندهم اليقين، ويختل ميزان التوكل. أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كل إخفاق أو فشل إلى العين، وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علة، ذلكم لأن نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمل لوم الآخرين. وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفا وسطا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلا وعقلا، ولا تغالى فتنسب كل شىء إليها، تتقى العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعا بعد وقوعها. أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال ((للمعين)) فيقال للعائن: اتق الله، ولا تضر أحدا من إخوانك المسلمين، وإياك والحسد فإنه منفذ للعين، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، ولما كان الحاسد أعم من العائن كما فى قوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد (1). والعائن ربما فاتته نفسه أحيانا، فوقعت منه العين، وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحا، وربما أصاب أقرب الناس إليه، وإن لم يقصد، من والد أو ولد. ولذا يوصى المسلم عموما، والعائن خصوصا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شىء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها حين يقول: ((إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق(2))) إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضر، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله (3)... على أن المسلم نفسه ينبغى أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العين سهما تخرج من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهى تصيب تارة وتخطئ تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه لابد، وإن صادفته حذرا شاكى السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه (4) كذا قال العارفون. فإن قلت: وكيف أتقى العين؟ وما أعظم سلاح ألوذ به؟ أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعلى لا يضر معه شىء، و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسى والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان ... إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التى بسطها العلماء فى كتب الأذكار. قال ابن القيم: ومما يدفع به إصابة العين قول: ماشاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ماشاء الله ولا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم التى رواها مسلم فى صحيحه ((بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك(1))). ولقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس، رضى الله عنها: ((مالى أرى أجسام بنى أخى ضارعة - أى نحيفة ؟ يصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم(2))). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد . نفعنى الله وإياكم بهدى الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لى ولكم.
2 الأحزاب / 70 ، 71 . 3 رواه أبو نعيم فى الحلية ، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع ( 4023 ) . 4 رواه مسلم فى صحيحه فى كتاب السلام ، باب الطب والرقى . 5 (1) يوسف / 67 . 6 (2) القلم / 51 . (3) تفسير ابن كثير 8 / 227 . (4) رواه البخارى ومسلم [ خ 10 / 171 ، م ( 97 ) ] .ِ (5) النهاية 2 / 375 . (6) شرح السنة 12 / 163 . (1) أخرجه الترمذى ، وحسنه وأخرجه غيره ( 2059 / زاد المعاد / 4 / 165 ) . (2) رواه البخارى فى التاريخ ، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع ( 1217 ) . (3) زاد المعاد 4 / 165 . (1) الفلق / 5 . (2) رواه أبو يعلى فى مسنده ، والطبرانى فى الكبير ، والحاكم فى مستدركه بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1 / 212 . (3) الكهف / 39 . (4) ابن القيم ( زادالمعاد 4 / 167 ) . (1) مسلم 2185 فى السلام / باب الطب . (2) رواه مسلم ، كتاب السلام 2198 . |