ملخص الخطبة
1- إقسام الله بالزمان لشرفه. 2- الزمن فرصة للتزود بعمل الآخرة. 3- الأعمار مسؤول عنها يوم القيامة. 4- ندم المفرطين يوم القيامة وتمنيهم العود للدنيا. 5- الوقت نعمة شكرها طاعة الله وكفرانها معصية الله. 6- صور من حرص السلف على أوقاتهم.
الخطبة الأولى
عباد الله:
الوقت والعمر والأيام والليل والنهار والدقائق واللحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على العباد.
تمنن الله عز وجل على العباد بنعمه فقال عز وجل: الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم:32-34]. وأقسم الله عز وجل بالزمان فقد أقسم بالعصر، وبالليل والنهار، وبالفجر وبالضحى لبيان أهمية الزمان فقال عز وجل: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر]. وقال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [الليل:1-2]. وقال تعالى: والضحى والليل إذا سجى [الضحى:1-2]. وقال تعالى: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2]. وقيمة الزمن تكمن في أن الله عز وجل جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [الفرقان:62]. قال بعض السلف: من فاته طاعة الله بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.
ودلت السنة كذلك على أهمية الزمن وخطره قال النبي : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))([1]). فيسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن، عن عمره فيما أفناه عامة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ))([2]). والمغبون هو الذي باع شيئا بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه، فالصحة والوقت نعمتان عظيمتان، أكثر الناس لا يستفيد منهما ويضيعهما ثم يندم عليهما في وقت لا ينفع فيه الندم، والموفق إلى بذلهما في طاعة الله عز وجل قليل، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، تستطيع أن تشتري بها كنزا لا يفنى أبد الآباد، فتضييعه وخسارته، أو اشتراء صاحب به يجلب هلاكه لا يسمح به إلا أقل الناس عقلا، وأكثرهم حمقا.
قال النبي : ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة ))([3]). قال بعض السلف: بلغنا أن نخل الجنة ساقها من ذهب، وسعفها من حلل، وثمارها أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل والشهد.
وقال : ((اقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ))([4]). وقال : ((من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى له قصر في الجنة))([5]). فخطر الأوقات والأنفاس أن العبد إذا تاجر فيها مع الله عز وجل ربح على الله عز وجل أعظم الأرباح.
قال الحسن البصري: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلا وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق، وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زاده إلى النار.
وخطر الأوقات والأنفاس كذلك مع كونها رأس مال العبد وفرصة الأعمال الصالحة، أن عدد الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا غيب فلا يدري متى تذهب أنفاسه حياته.
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
قال الحسن: المبادرة المبادرة إنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، لو حبست انقطعت عنكم ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ: إنما نعدّ لهم عدا آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك. فالله عز وجل قدر لنا عددا محددا من الأنفاس فكلما تنفس العبد نفسا سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل، فمن كان يمشي على ظاهر الأرض بالطاعة والمعصية، يصير محبوسا في باطنها مرتهنا بعمله.
وإنما يدرك العبد خطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمرا من أمور الآخرة.
قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99]. وقال تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [المنافقون:10-11]. وقال تعالى: ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [السجدة:12]. وقال تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [الأنعام:27]. وقال تعالى: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [فاطر:37]. وقال تعالى: قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [غافر:11]. فالعمر والوقت نعمة من الله عز وجل، فمن شكرها بطاعة الله عز وجل وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل:32]، وتقول له في الجنة: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24]. ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله عز وجل تقول له الزبانية: ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين [غافر:75-76]. فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.
وقال بعضهم ك هب أن المسيء قد عُفِي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين كم من المسلمين عباد الله من يضيع الساعات في غير الطاعات، بل في معصية رب الأرض والسماوات، كم من أناس يضيعون أعمارهم في الجلوس على المقاهي ومجالس اللغو واللهو يفرحون برؤية الذاهبات والغاديات، كم من أناس يضيعون أوقاتهم أمام لوحة النرد أو الشطرنج وإن سألتهم قالوا : نقتل الوقت، نقول لهم : أنتم تقتلون أنفسكم أو تنتحرون انتحارا بطيئا، لأن الوقت هو عمر الإنسان، ولأنه من أعظم نعم الله عز وجل على العباد، هل الوقت عدوا أو نقمة يتخلصون منه بقتله، إنهم يضيعون فرصة عمرهم، وفرصة العمل بطاعة ربهم، وكل يوم يمضي من أعمارهم لا يعود إليهم أبدا، وإنما يمضي بما فيه من خير أو شر.
كان السلف رضي الله عنهم أحرص الناس على أوقاتهم.
قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك فقال : أوقف الشمس.
وكان بعضهم إذا جلس الناس عنده فأطالوا الجلوس يقول: أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر.
كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصكم على دنانيركم ودراهمكم.
مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة.
كان ثابت البناني يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى في قبره فأذن لي.
وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد من يبكي بعدك لك، من يترضى ربك عنك.
ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.
وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: إشرب قليلا من الماء قال: حتى تغرب الشمس.
أين وصفك من هذه الأوصاف، أين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف.
لقد قام القوم وقعدت، وجدوا في الجدّ وهزلت، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا ديار الأحباب أين السكان، يا منازل العارفين أين القطان، يا أطلال الوجد أين البنيان، أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر، وإنما ينطبق علينا عباد الله قول القائل:
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك وهل ينفع الطرق في حديد بارد.
([1])رواه الترمذي (9/253) عارضة ) صفة القيامة وقال : حسن صحيح ، وحسنه الألباني بشواهده في الصحيحة .
([2])رواه البخاري (11/233)الرقاق : باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة والترمذي ، (2304 شاكر) الزهد : باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس .
([3])رواه ابن حبان (2335موارد) ، والترمذي (3531شاكر) الدعوات والحاكم (1/501، 502) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني .
([4])رواه الخطيب في التاريخ (1/285) ، والديلمي (1/1/13) وقال الألباني : وهذا إسناد جيد رجاله رجال الصحيح غير ابن الجنيد ترجمه الخطيب وقال : وهو شيخ صدوق ، ووثقه غيره وروى الترمذي نحوه – الصحيحة 660.
([5])رواه أحمد (5/437) ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (589) .