ذكريات تائب
الحمد لله غافر الذنب .. وقابل التوب ..
شديد العقاب ذي الطول .. لا إله إلا هو إليه المصير ..
الحمد لله الذي يقول للشيء كن فيكون .. وبرحمته نجى موسى وقومه من فرعون ..
الحمد لله الذي كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
وسبحان من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ..
وما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه ذكريات .. ومشاعر وهمسات ..
أفضى بها التائبون .. واعتبر بها المذنبون ..
نعم .. هي ذكريات .. اعترف بها كهول هدهم مر السنوات ..
وشباب لعبت بهم الشهوات ..
وفتيات ولغن في الملذات ..
هي ذكريات .. مرت وانقضت .. وانتهت ونُسيت ..
لكنها سجلت وكتبت .. وأحصيت وعُدّت ..
* * * * * * * * *
نعم ..
هذه ذكريات تائب .. واعترافات منيب وراغب ..
في زمن كثرت فيه المغريات .. وتنوعت الشهوات ..
وزلت بكثير من الناس الأقدام .. فقارفوا المعاصي والآثام ..
فضعف إيمانهم .. وقوي عليهم شيطانهم ..
إنها ذكريات .. لمن يؤمن بقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ..
كما يؤمن بقوله : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ..
* * * * * * * * *
هذه أخبار أقوام أخبر ربهم .. أنه يفرح بتوبة التائبين إليه ..
مع غناه عنهم .. وشدة حاجتهم إليه ..
وكيف لا يفرح بتوبتهم .. وقد ناداهم بقوله :
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ..
وناداهم نبيهم بقوله :
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
أول هؤلاء التائبين ..
شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
* * * * * * * * *
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
* * * * * * * * *
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ..
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
* * * * * * * * *
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
* * * * * * * * *
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
* * * * * * * * *
ومن فرح الله بالتائبين إليه أنه لا يغفر سيئاتهم فقط .. كلا .. بل يبدل سيئاتهم حسنات .. قال عز وجل :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } .. وفي البخاري أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أي رسول الله .. أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية .. من صدقة أو .. عتِاقة .. أو صلة رحم .. أفيها أجر ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ..
الله أكبر ..
الذنوب تغفر .. والسيئات تبدل حسنات .. والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة .. فماذا بقي !
* * * * * * * * *
هو التواب الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيء ..
لكن رحمته قريبة من المحسنين .. الرجاعين التائبين ..
الذين إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذُكِّروا ذكروا ..
فليست المشكلة في وقوع الذنب .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
هي أن يألف المرء الذنب .. ثم يتساهل بخطره .. فلا يحدث منه توبة ..
والله رحيم بعباده ..
رحمته أسرع من غضبه ..
ومغفرته أعجل من عقوبته ..
هو والله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..
* * * * * * * * *
نعم .. ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
* * * * * * * * * *
يتبع ...