بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الإنتصار
فضيلة الشيخ د. ناصر ابن سليمان العُمر
…………………………………..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نحمد الله جل وعلا ونثني عليه الخير كله أن وفقنا لهذا اللقاء الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء طيبا مباركا.
موضوعنا لهذا اليوم عن حقيقة الانتصار.
وأحب أن أبين في البداية شرحا موجزا للعنوان، فقد يتبادر إلى أذهان البعض أنني سأتحدث عن لانتصار بمعناه الشامل، الذي هو انتصار وظهور الدين.
وليس هذا هو موضوع حديثي مع أهمية هذا الموضوع، وقد تحدث فيه كثير من العلماء وطلاب العلم، وكتب فيه بعض الكتاب من الإسلاميين.
ولهذا فإن الموضوع الذي عنيته هو حقيقة انتصار الداعية، وهناك فرق بين مفهوم انتصار الدين وظهوره وبين ومفهوم انتصار الداعية، مع أن بينهما عموم وخصوص كما سيتضح بأذن الله من خلال هذا الدرس.
لهذا آمل أن ينتبه الأخوة الكرام إلى هذه القضية وأن الحديث سيدور حول موضع واحد وهو حقيقة انتصار الداعية، أما ما يتعلق بانتصار الدين وظهوره فلن أتعرض له إلا بمقدار صلته بالموضوع الأساسي.
أما سبب الحديث عن الموضوع، فهناك سبب جوهري نشأت عنه آثار أخرى:
وهو أنني رأيت خلطا بين مفهوم انتصار الداعية وبين مفهوم انتصار الدين وظهوره، بل إن كثير من الدعاة ومن طلاب العلم، وكثير من الناس جعلوا هناك تلازما بينا وظاهرا بين ظهور الدين وتمامه وبين انتصار الداعية، فإذا لم تتحقق الأهداف التي جاء الداعية من أجلها حكموا على الداعية بالفشل، إن تحققت هذه الأهداف أو تحقق بعضها اعتبروا هذا هو المقياس الحقيقي لانتصار الداعية.
ونتيجة الخلط في هذا المفهوم نشأت عنه أمور عدة أذكر أبرزها:
الأمر الأول:
وهو ما أشرت إليه قبل قليل أن كثير من الناس يتصور أن هذا الداعية لم ينجح في دعوته لأن الأهداف التي جاء من أجلها وأعلنها لم تتحقق في صعيد الواقع، فيحكمون على الداعية بالفشل، لماذا ؟
لأنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه أو بعضها وهي المتعلقة بظهور الدين وتمامه.
ولذلك رأينا من يقول لبعض الدعاة:
ماذا استفدت من دعوتك؟ هل اهتدى الناس ؟ هل تغيرت المنكرات التي جئت لإزالتها ؟
وهم ينطلقون من هذا المفهوم أن هذا الداعية قد فشل،فلماذا يستمر في دعوته ؟
وهذا ناشئ من الوهم ومن الخلط بين حقيقة انتصار الداعية وبين ظهور الدين وتحقق الأهداف التي يدعو إليها الداعية.
الأمر الثاني:
الذي نشئ من هذا الخلط ومن الجهل في هذا المفهوم هو الاستعجال، وقد رأينا بعض الدعاة يستعجـلون النتائج لأنهم وضعوا تلازما بين حقيقة ما أمروا به وبين الأهداف التي جاءوا من أجلها.
فإذا عمل أحدهم بضع سنوات وأحيانا بضعة أشهر ولم يرى أن النتائج قد تحققت تعجل، وقد يتصرف بعض التصرفات التي لا ترضي الله جل وعلا.
ولذا رأينا كثيرا من الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كانت تسير بخطى وئيدة ولكن سرعان ما رأينا هناك تعجلا من بعض الدعاة أو من بعض الأفراد مما جر على الأمة الكوارث والمصائب بسبب تعجل المتعجلين.
حينما دعا موسى عليه السلام على فرعون وأمن هارون:
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
قال الله تعالى بعد هذا الآية مباشرة:
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
قال الإمام الطبري، وابن كثير قال ابن جريج أجيبت الدعوة بعد أربعين سنة، وقيل غير ذلك..
أربعين سنة مع أن الله قال (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا).
إن التعجل أيها الأحبة في هذه القضية جر على الأمة مصائب وويلات، وإن منشئ هذا التعجل أسباب كثيرة من أهمها أن الداعية يتصور أن انتصاره الحقيقي هو تحقق النتائج التي جاء من أجلها.
قد يدرك المتأني بعض حاجته....... وقد يكون مع المستعجل الزلل
اصبر قليلا وكن بالله معتصما........ لا تعجلن فإن العجز بالعجـل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة ...... لكن عواقبه أحلى من العسـل
اصبر قليا فبعد العسر تيسير..... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قدر.............. وفوق تدبيرنا لله تدبير
إن التعجل مظهر أو ملحظ نلحظه عند بعض الدعاة وله آثاره السلبية كما بينت.
الأمر الثالث:
هو أنه قد يحدث بسبب الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار انحراف عن المنهج، فقد يسير بعض الدعاة على منهج سليم، ولكن عندما تتأخر النتائج وعندما يرون أنهم لم يتمكنوا من تحقيق بعض ما جاءوا به من الحق يبدأ الانحراف.
ومن مظاهر الانحراف التنازل وتقديم التنازلات تلو التنازلات وعندما تأتي لهؤلاء يقولون نحن نريد أن تتحقق بعض النتائج لمصلحة الأمة أو لمصلحة الدعوة وهم يرتكبون خللا في هذا الأمر.
نحن نتمنى أن يتحقق أي أمر من أمور الدعوة، بل إن تأخير الفساد بحد ذاته مطلب من المطالب، ولكن إذا كان لا يمكن أن يتم تأخير الفساد أو تحقيق بعض الأهداف إلا بالتنازل الذي هو انحراف عن المنهج فهذا لا يجوز.
ولذلك رأينا مثلا في بعض الدول الإسلامية أن بعض اللذين يدخلون البرلمانات أو لمجلس النواب أو لمجلس الأمة سموه ما سموه أنهم يقدمون تنازلات، أي يعترفوا للباطل بباطله.
فهم يؤدون اليمين والقسم والعهد ولاعتراف بهذا النظام الذي يحكم هذا البلد وتجد نظاما كافرا، فكيف يجوز للمؤمن أن يعترف ويقر مثل هذا النظام.
وتجد المداهنة وتجد أنهم يقبلون أيضا بمبدأ خطير وهو أنهم يوافقون على عرض شريعة الله ودين الله لتصويت البشر.
فيعرض في هذا البرلمان مثلا قضية تطبيق الشريعة، إن مجرد القبول بهذا المبدأ خلل خطير في المنهج، أننتظر من الناس أن يصوتوا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق، مجرد القبول بمبدأ تصويت البشر هل يمنع الخمر أم لا يمنع قضية خطيرة.
أقول لو استطعنا أن نمنع أي منكر من المنكرات في بلد من البلدان فهذا مطلوب، ولكن بدون تنازل.
لو استطعنا أن نمنع الدخان مثلا هذا مكسب كبير، ولكن بدون تنازل.
أما أن نأتي لنطرح هذه القضية لتصويت البشر ليقرروا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق فهذا خلل.
وإن من أسباب القبول بهذا المبدأ هو الربط بين انتصار الداعية وبين تحقق الدين وظهوره.
الأمر الرابع:
الذي ينشئ من الخلط في هذا المفهوم هو اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
بعض الدعاة يسيرون زمنا في دعوتهم، ثم تفاجأ أن هؤلاء قد اعتزلوا الساحة، وتسأل ما هو السر في ذلك ؟ فتجد أن الإجابة القولية أو الفعلية أنهم يأسوا، فيقولون حاولنا وفعلنا ولكن لم نرى تأثرا، لم نرى تقدما، لم نرى استجابة، فيأسوا ثم اعتزلوا.
وهذا أيضا خلل نشئ من أمور من أبرزها الربط بين انتصار الداعية وبين انتصار الدين وظهوره.
أذكر أن أحد الزملاء بعد تخرجه من الجامعة زار أستاذا له كان قد درسه في المرحلة الثانوية.
وكان هذا الأستاذ حريصا في ما مضى على الدعوة، وممن له تأثير على هذا الزميل في تربيته وتوجيهه إلى الدعوة، وقد ترك هذا الأستاذ التدريس والدعوة وانخرط في وظيفة وانشغل بالدنيا، فذهب هذا الطالب لزيارته وبعد الحديث سأله قائلا:
يا أستاذي لقد كان لك الفضل بعد الله جل وعلا في توجيهنا إلى الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال الأستاذ يا أخي لو رأيت سيلا قادما وأنت في واد من الأودية فهل تقف أمامه أم تهرب منه؟
فقال له هذا الأخ يا أستاذي أنا أسألك سؤلا:
لو رأيت سيلا قادما ووجدت أناسا يسكنون الوادي وتستطيع أن تنقذ هؤلاء أتهرب وتتركهم أو تحاول أن تنقذهم قبل أن يغرقوا، فأصبح التلميذ أستاذا.
هذه القضايا الأربع:
أن الناس يحكمون على الداعية من خلال تحقق النتائج.
والاستعجال من بعض الدعاة والجماعات.
والانحراف في المنهج.
واليأس والقنوط ثم الاعتزال.
إن من العوامل المؤثرة في نشأتها هو الخلط بين هذين المفهومين مفهوم انتصار الداعية ومفهوم تحقق وظهور الدين.
لهذا سنقف هذه الليلة مع مفهوم حقيقة انتصار الداعية حتى نكون على بينة من أمرنا، وحتى لا نستعجل ولا ننحرف ولا نيأس، بل نمضي إلى الله بجد وعزيمة وصبر وثبات.
أيها الأحباب ما هو مفهوم النصر وحقيقته ؟
يقول سبحانه وتعالى:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
هذه الآيات فيها نص على نصر الداعية، وهنا يأتي السؤال الذي أثاره الإمام الطبري، وأثاره عدد من العلماء من بعده، ويرد إلى أذهاننا نحن عندما نقرأ هذه الآيات ونتأمل في الواقع فنجد ما يلي:
وجدنا أن بعض الأنبياء قد قتله قومه كيحيا وزكريا عليهما السلام.
نجد أن بعض الأنبياء قد طرده قومه كإبراهيم عليه السلام عندما خرج من الشام، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) خرج من مكة.
ونجد من الأنبياء من لم يستجب له من قومه إلا قلة كنوح ولوط وشعيب وصالح وهود عليهم السلام.
ونجد من الأنبياء من حاول قومه قتله وإحراقه بل ألقوه في النار كإبراهيم عليه السلام.
ونجد أن عيسى عليه السلام قد أراد قومه قتله ثم صلبه فرفعه الله جل وعلا.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه، ألم يقل الله تعالى:
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
ألم يقل سبحانه:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
فأين النصر الذي وعد الله تعالى به في الحياة الدنيا؟
والجواب أيها الأحباب:
أن منشأ السؤال حدث لأننا نقصر النصر على نوع من أنواع النصر فقط، ففسرنا النصر بجزئية واحدة من جزئياته لا بالمعنى الكلي للانتصار.
لأننا تصورنا أن الانتصار هو ظهور الدين وتمامه وتحقق إيمان القوم لهذا النبي فقلنا أين الانتصار ؟
لكن الانتصار أيها الأحبة له صور عدة ولا يقتصر على صورة واحدة، سأذكر لكم في هذه العجالة أهم هذه الصور، حتى نعلم ونوقن إيمانا حقيقيا -ونحن كذلك إن شاء الله- أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ونصر الله متحقق للأنبياء ولعباده المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا أيضا.
إذا ما هو النصر الحقيقي ؟
النصر الحقيقي لا نقصره على صورة واحدة، وإنما هو صور متعددة، فقد يتحقق النصر لهذا النبي بصورة، ولذلك النبي بصورة أخرى، وللنبي الأخر بصورة ثالثة وهكذا، وكذلك لعباد الله الصادقين من الدعاة.
الصورة الأولى من صور النصر:
أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على يد هؤلاء الأنبياء والرسل والدعاة، وهو ظهور الدين وتمام الدين وقيام دولة الإسلام، كما حدث مثلا لداود وسليمان عليهما السلام وآتاه الله الملك،، وكما حدث لموسى عليه السلام بعد إغراق فرعون وقومه، وكما حدث بصورة ظاهرة بينة متكاملة لنبينا (صلى الله عليه وسلم) وبخاصة بعد فتح مكة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).
هذه الصورة التي تتبادر إلى أذهاننا ولكنها صورة واحدة من صور النصر، وليست هي على سبيل الحصر.
الصورة الثانية من صور النصر:
وهي التي وعد الله بها وتتحقق أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين ومن آمن معهم، كما حدث لنوح عليه السلام، ولموسى وقومه، وكما حدث لصالح وهود ولوط مع أقوامهم.
والدليل على أن هذا نوع من أنواع النصر أن نوح عندما يأس من قومه ماذا قال ؟ قال:
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، ثم ماذا ؟
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
إذا فإهلاك الأمم المكذبة هو نوع من أنواع النصر، مع أن الله لم يذكر لنا، ولم نجد في القرآن ماذا حدث لأولئك الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك.، إذا هذا نوع من أنواع الانتصار.
النوع الثالث من أنواع النصر:
أن النصر قد يكون بانتقام الله من أعدائهم ومكذبيهم بعد وفات هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيا عليه السلام، فقد انتصر الله له بعد حين بتسليط بختنصر على قومه فسامهم سوء العذاب، وهذا انتصار من الله جل وعلا ليحي عليه السلام في الحياة الدنيا.
وكما حدث للذين حاولوا قتل وصلب عيسى عليه السلام، فبعد أن رفعه الله انتقم من أعدائه بتسليط الروم عليهم فساموهم سوء العذاب. هذا نوع من أنواع النصر، ووعد الله لا يتخلف.
النوع الرابع من أنواع النصر:
وآمل أن تقفوا معي وقفة مهمة في هذا النوع لأننا بأمس الحاجة في هذا العصر إلى الفقه فيه، وإلى الوقوف عنده وهو أن ما قد يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي.
فكم من شهيد كانت الشهادة هي الانتصار له ولدعوته، ومثل ذلك الإيقاف والسجن والطرد والأذى، فقد يتصور الناس أن الداعية قد انتهى بقتله، أو انتهى بإيقافه أو انتهى بسجنه، أو انتهى بالنيل من عرضه، وتكون هذه هي نقطة الانطلاق والانتصار لهذا الداعية، وهذا أمر يدل عليه الكتاب والسنة والواقع المشاهد، ماذا قال الله عز وجل عن نبينا (صلى الله عليه وسلم):
)إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، متى ؟ في فتح مكة! في بدر! أبداً
( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج من مكة يخرج منتصرا (صلى الله عليه وسلم).
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أوقف وسجن ومات في سجنه، هل نقول انه انتصر؟ نعم إنه انتصر كما سأقف مع السبب الذي بعده.
كذلك إيقاف كثير من الدعاة، وقد رأينا أنه قد زاد انتصارهم واستجاب الناس لهم بعد ما تم إيقافهم، وقد رأينا أن من الدعاة من أوذي في عرضه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى وهو حقيقة قد انطلق بعد هذه الوقفة، وهنا تحقق انتصاره:
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
هذه حقيقة نشاهدها ونراها، وهنا يأتي واجب الدعاة، وواجب طلاب العلم، وواجب الأتباع الذين يتبعون الحق أنه في مثل هذه المواقف فالنصر للداعية ولمنهجه.
هذه حقيقة يجب أن تكون بين أعيننا جلية واضحة.
وأذكر لكم هنا قصة وإن كانت لا ترتبط بموضوعنا ارتباطا مباشرا، ولكن لعله يتبين من خلاله أن تصور الناس أحيانا يكون في غير محله.
أثناء دويلات الطوائف قتل أحد الأمراء وهو عضد الدولة خصما له من الوزراء، ثم صلبه، وبعد أن قتله وصلبه ترسخ في أذهان الناس أن هذا المقتول قد انتهى وأن هذه هزيمة نكراء له.
جاء شاعر من الشعراء، كان يحب هذا المقتول، ويعرف عنه أنه كان كريما ومعطاء فماذا حدث ؟
قال قصيدة تمنى القاتل حين سمعها أنه المقتول وأن القصيدة قيلت فيه.
واستمعوا إلى بعض أبياتها وهي تصور هذا المقتول وهو مصلوبا والناس حوله يحيطون به، والنار توقد حوله في الليل، والحرس يحيط به خوفا من أن يأخذه أتباعه، فماذا قال الشاعر:
علو في الحياة وفي الممات................. لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا..............وفود نداك أيام الصـلات
كأنك قائم فيهم خطيبا..................وكلهمُ قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء................ كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ............... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا......... عن الأكفان ثوب السافيات
لقدرك في النفوس تبيت تُرعى....... بحراس وحفاظ ثقاة
وتوقد حولك النيران ليلا................. كذلك كنت أيام الحياة
ولم أرى قبل جذعك قط جذعا............ تمكن من عناق المكرمات
عليك تحية الرحمان تترى............... برحمات غواد رائحات
طبعا نحن لا نوافق على كل ما ورد في هذه الأبيات، ولكن أريد أن أبين لكم أن التصور قد لا يكون في محله أحيانا، المهم أن الذي قتله قال، كنت أتمنى لو كنت المصـلوب وأن هذه القصيدة قيلت في.
نعم هذا الأمر قد لا يرتبط مباشرة بشخص المقتول، ولكن عندما يسجن أو يوقف الداعية فهذا انتصار له وليس هزيمة.
ثقوا أن اللحظة التي يقتل أو يوقف أو يسجن أو يطرد فيها الداعية، لا يتم هذا الأمر إلا أن يكون عدوه قد ذاق المر من الغيظ والحنق والألم، وهذا هو أشد أنواع العذاب، يتقلب على جمر الغظى ألما حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولذلك يقول الله جل وعلا:
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً).
وهذا واقع محسوس ومشاهد، والحجاج عندما قتل سعيد أبن جبير رحمه الله، هل حصلت السعادة للحجاج؟
أبدا، كان يقول: مالي ولسعيد، وكان يقوم من الليل فزعا حتى مات.
إذا من هو المعذب ؟ ومن هو المنهزم ؟
ولذلك قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) أي بالسعادة.
نعم الداعية وهو يقتل أين ذاهب؟ إلى الله، بخ بخٍ ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني أحد هؤلاء.
وهو يسجن وهو يطرد وهو يوقف يعبر عن ذلك شيخ الإسلام أبن تيمية:
(ماذا ينقم من أعدائي، أنا جنتي في صدري، سجني خلوة، وتسفيري سياحة، وقتلي شهادة).
ولهذا يقول أحد السلف:
(والله أننا لنعيش لذة ونعيما لو يعلمه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف).
هذه حقيقة يجب أن نفهمها ونحن نناقش هذا الموضوع، ونعيش معه.
النوع الخامس من أنواع الانتصار:
أن ثبات الداعية على مبدئه هو انتصار باهر، ثبوته رغم الشهوات والشبهات والعقبات، ولا يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار:
فإبراهيم عليه السلام وهو يقذف في النار في قمة انتصاره.
والإمام أحمد وهو توضع رجلاه في الحديد في قمة انتصاره، في محنة الدنيا والدين كان في قمة انتصاره.
بلال رضي الله عنه وهو يعذب ويردد أحدُ أحد كان والله في قمة انتصاره.
آل ياسر وهم يعذبون كانوا في قمة انتصارهم.
وهذا نلمسه من حديث خباب وسنذكره بعد قليل.
النوع السادس من أنواع الانتصار:
أن النصر قد يكون بقوة الحجة كما قال الطبري والسدي في قوله تعالى:
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فقوة الحجة رفع للدرجة وهو انتصار، وفي سورة البقرة في قصة الذي كفر لما حاج إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى في آخر الآيات:
( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
من الذي انتصر ؟ هو إبراهيم عليه السلام.
النوع السابع من أنواع الانتصار:
أن الداعية قد لا ينتصر الانتصار الظاهر في زمن، ثم ينتصر بعد ذلك انتصارا عظيما بعد سنوات، فشيخ الإسلام ابن تيمية مات وهو في السجن، وأتباعه أقل من معارضيه، أما الآن وبعد مئات السنين فانظروا كم الذين أخذوا ونهلوا واستفادوا من المنهج الذي رسمه وبينه شيخ الإسلام أبن تيمية وفق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟
نقول ذلك لأننا أحيانا قد نقصر الانتصار على فترة محددة في الزمان والمكان وهذا خطأ.
أيضا قد لا يستجيب الناس لداعية في بلد، ويستجاب له في بلد آخر، وهذا كثير جدا، فيجب أن لا نقصر الانتصار على زمن محدد أو بلد محدد.
النوع الأخير من أنواع الانتصار:
أن الانتصار قد يكون أحيانا بمعنى المنع، يقول تعالى:
( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
أي يمنعون، فالنصر قد يكون بمعنى المنع من الأعداء وهذا انتصار للداعية في الحياة الدنيا.
هذه بعض صور الانتصار.
ولهذا إذا رأينا أي داعية لم يتحقق له النصر الظاهر فلا يعني هذا أنه لم ينتصر.
الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لو وقفنا مع حياة أي واحد منهم لوجدنا أنه قد تحقق له نوع من النصر، بل أحيانا أكثر من نوع من أنواع النصر في الحياة الدنيا.
فلا نقصر النصر على نوع واحد ولا على مفهوم واحد، فمفهوم النصر أوسع وأشمل وأعمق.
يتبع ..