ظاهرة تبلد الإحساس
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، و على آله و صحبه أجمعين، و على التابعين و من صار على هديهم إلى يوم الدين، أيها الإخوة، أيتها الأخوات، السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، نحن نعيش في هذه الأيام –و لا شك- حالاً عظيمة، و كرباً شديداً، و تسلطاً من الأعداء كبيرة، و إذا تلفت في المسلمين وجدت الحالة لا تبعث على السرور، مما أصابهم من التردي في كثير من الأحوال، و لولا حديث {إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم}، إذاً لقلنا لا فرج، و لكن الله رحيم يأتي بالفرج، و الناس فيهم رجاء، و في المسلمين خير، لكنه يحتاج إلى بعث، و لابد من العلاج لهذه الحالة. و من أمراضنا التي تحتاج إلى علاج: تبلد الإحساس. بعُد كثير من المسلمين عن دينهم، و أصابتنا الذلة لمّا تركنا الجهاد في سبيل الله، و تبايعنا بالعينة، و تعاملنا بالربا، و رضينا بالزرع، فسلط الله ذلاً لن ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، و أصبح الحال كما قال الشاعر: نهارك يا مغـرور سـهوٌ و غـفلةٌ و لـيـلك نـومٌ و الـردى لك لازمُ و شغلك فيما سوف تكره غِبهُ كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ لقد مات عند الكثير من الناس الشعور بالذنب، مات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أصلاً أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه ببعض الأركان و الواجبات ظن نفسه قد حاز الإسلام كله، و أن الجنة تنتظره، و نسي هذا المسكين مئات الذنوب و المعاصي التي يرتكبها صباحاً و مساء، من غيبة، و بهتان، و نظر لحرام، و شرب لحرام، و استماع لحرام، و لعب بالحرام، و أكل للحرام، و ترك لواجب، و فعل لمحرّم، و تأخر عن فريضة، و تهاون في حكم،......، و هكذا من المعاصي و المخالفات التي استهانوا بها، و التي تكون سبباً للهلاك و الخسارة في الدنيا و الآخرة، فضلاً عن الكبائر، و الموبقات، و الفواحش، و الرشوة، و السرقة، و العقوق، و الكذب، و قطع الأرحام، و الخيانة، و الغش، و الغدر، و غير ذلك. إن هؤلاء المساكين الغافلين السائرين في غيهم قد أغلقت المادة أعينهم، و ألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، و إذا استمروا على ما هم فيه فلابد من حصول الندم، إذا لم يتوبوا إلى ربهم و لم يفيقوا من غفلتهم فإن العذاب ينتظر، أمـا و الله لو علم الأنـامُ لِمَ خلقوا لما غفلوا و نـاموا لقد خلقوا لِمَا لو أبصَرَته عيون قلوبهم تاهوا و هاموا ممـاتٌ ثم قبرٌ ثم حشـرٌ و تـوبــيـخٌ و أهــوالٌ عـظـامُ تبلد الإحساس ظاهرة عجيبة، التبلّد نقيض التجلّد، إنه ذل و استكانة، قال الفيروز أبادي: التبلد ضد التجلّد، و كذا قال ابن منظور، و الإحساس: العلم بالحواس، و في لسان العرب بليد الحس: ميت، و في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ.....) (الأنعام 60)، قال البيضاوي: ينيمكم و يراقبكم، سمي النوم وفاة لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس. هناك أناس عاشوا بحياة فيها أكل و شرب، لكن قلوبهم ميتة، الإحساس بالذنب، الإحساس بالتقصير غير موجود، الإحساس بما يصيب المسلمين مفقود، و هكذا تجد القلوب قاسية. إن لهذا التبلد في الإحساس مظاهر، و منها ما ذكره الله تعالى فيما عاتب فيه المؤمنين فقال (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (الحديد 16)، إستبطىء الله قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية، و هكذا قسوة القلب بطول الأمد و بُعد العهد من النبوة و العبادة و الرسالة. أيها الإخوة، إن هذه الغفلة المستحكِمة و المسيطرة اليوم على الحال، لابد من علاجها، لابد من زوالها، إن هنالك بُعداً عن الدين، تبلد إحساس يعيشه البعض (يعيشون في عالم المنكرات و المحرمات، و ترك الواجبات) كثرة رؤية المنكرات يسلب القلب نور التمييز، و قوة الإنكار. المنكرات إذا كثرت على القلب لم يعد ينكرها، هذا التبرج، و هذا الاختلاط، و هذا الغناء، و هذا الفحش، و هذه الدعارة الفضائية، إن الخوف كل الخوف أن ينسلخ من القلوب كره المعصية و قُبحها، لأن المعاصي إذا توالت على النفوس، أنِسَتها و ألِفَتها و عاشت معها و تعايشت معها، و الواجب على كل مسلم و مسلمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، {ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا} (رواه أبو داود و هو حديث حسن)، {والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم}. ما حال شبابنا؟ بناتنا؟ ما حال أسواقنا؟ ما حال بيوتنا يا عباد الله؟، هذا التبلد في الإحساس الذي أصابنا حتى لم نعد ننكر كثيراً من المنكرات، كثير من المنكرات منتشرة، متفشية، موجودة لا تجد من يقاومها و لا من ينكرها، حتى النصيحة، حتى الدعوة قد خفّت عند الكثيرين، شغل بالتجارة، شغل بالوظائف، شغل بالدنيا، هكذا إذاً الأمور: نوم، طعام، ثم ألعاب إلكترونية و غيرها، صفق بالأسواق، معاكسات، مغازلات، ثم سهر على القنوات، ثم نوم، و هكذا. ثم نجد الكثير من التهاون و التفريط في الواجبات الشرعية و ارتكاب المحرمات، لدرجة أنه وجد في المسلمين شيء اسمه عبادة الشيطان، هل كان يُتَصور أن يوجد في المسلمين قوم يعبدون الشيطان؟!، هذه القضية أو هؤلاء القوم الذين ظهروا في بعض البلاد العربية (عبدة الشيطان) يروّجون للعلاقات الشاذة بين الرجال و الرجال، و يصفون أنفسهم بأنهم أبناء قوم لوط، و يعتبرون الشاعر العربي القديم أبو نواس هو نبيهم، و المهندس الذي أنشأ تلك المجموعة يعتقدون بأنه سيلعب دوراً في حماية أتباع الأديان السماوية الثلاثة، يمارسون الطقوس، طقوساً منحرفة، و حفلات ماجنة في المراكب و يتعاطفون مع اليهود باعتبارهم أصحاب دين سماوي، و كذلك فإنهم يعتزّون بنجمة داود، صلاتهم بالتوجه إلى البحر الميت تبرُّكاً بالاستحمام بماءه على أساس أنه يطل على أرض أسلافهم قوم لوط الأولين، يكرهون الإناث و يعتبرونهن مجرد مواعين للإنجاب، و هكذا (البحر الميت قبلتهم). من كان يتصور أيها الإخوة أنه سيوجد في المسلمين مثل هذا؟!، ستعود عبادة الشيطان المُمَارَسة بالتلطخ بالقاذورات و النجاسات، و هكذا من الطقوس العجيبة الغريبة التي تُمارس، ثم يأتي بعض من يعذر هؤلاء و يقول لا تُطبق عليهم حد الردّة، و هؤلاء لا يعاقبون، و إنما لابد من الرأفة بهم، أنهم شباب طائش، و لذلك فإن هذا الطيش لابد أن نقابله بالتقبّل و الرأفة بحال هؤلاء، فإذا قام بعض الذين عندهم غيرة على الدين بإنكار المنكرات، قالوا هؤلاء تطبق فيهم حد الحرابة، يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، هكذا تقلب الأمور، و تعكس القضايا، و يطيش الميزان، و كل ذي لب يرى كيف أن هؤلاء وصل بهم الأمر إلى هذه القضية، فلا بيان و لا قيام بحق الله في الدعوة و الإنكار، و تفشّي لهذه المنكرات حتى تصل إلى عبادة الشيطان. تبلد الإحساس حتى في الغفلة عن الموت و تَذَكره، و ما بعده، و لو سألت بعض الناس: ماذا سيكون في القبر؟، لجهل كثيراً مما يكون، و ماذا سيكون في الآخرة؟، لا يعرف كثيراً مما يكون، بل تراهم حتى في مواضع التذكّر في المقابر يضحكون و يمزحون مع بعضهم، و هكذا تبلد إحساس و جوالات تعمل بالموسيقى عند القبر، شباب لاهين في الشوارع، رافعين الأصوات الموسيقية، يرقصون على الأرصفة، تبرج النساء (تبلد إحساس)، لا هم أصحاب المنكر يرتدعون و يخجلون من أنفسهم، و لا من يقوم و يبين حرمة هذا الذي يفعلونه أو ينصحهم، و ترى الغفلة في هذا المنصوح لو نُصح، شباب لاهين من هؤلاء رافعين المنكر مجاهرين به، نصحهم شخص فيه شيء من الشيب، قالوا: نحن شباب يا شايب، يعني ولي عنا، نحن في هذا العمر نعمل، نمرح بهذا اللعب و هذه الأمور المحرمة. تبلد إحساس حتى في قضايا النعمة، ناس عندهم أموال، بيوت، أثاث، صحة، خير، عافية، وظائف، عندهم طعام، شراب، لباس، عندهم كماليات، عندهم أشياء عجيبة في بيوتهم، لكن الحقيقة {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}. مَن الذين يتأثرون اليوم بسماع القرآن الكريم؟، يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن، و هو عند كثير منهم أصوات من مقرئين ربما يعجبهم لحنها و جمالها في الظاهر، لكن ليس لقلوبهم منها نصيب. قال أبو موسى الأشعري في رسالته إلى قراء البصرة و كلامه معهم، لمّا أرسل إليهم فجاءوه، دخل عليه ثلاثمائة منهم قد حفظوا القرآن، قال: {أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة، كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة.....}. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (الأنفال 2)، من صفاتهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يخشعون لذكره، و سماع آياته، و الأصل في المؤمن التدبّر و التفكّر و العلم بما أنزل الله، و العمل بهذا، أي أمر في الآية، أي نهي فيها، أيها الإخوة إن حال المسلم ينبغي أن يكون مع كتاب الله، اجتماع على تلاوته و مدارسته في مجالس و حِلق تنزل عليها السكينة و تغشاها الرحمة و تحفها الملائكة. هناك تبلد في الإحساس في قطاعات كثيرة من الناس، تبلد إحساس عند أركان الأسرة، الأب لا يهتم بتربية أولاده و لا بإيقاظهم للصلاة، لا يمنع المنكرات في البيت، تتصل المدرسة على الأب تستدعيه لأجل القضية خطيرة فيأتي و يقول: ما هي القضية هذه الخطيرة؟ قالوا: هذا ولدك ضبط في وضع مخل جداً بالدين و الأدب و الحياء في حمام المدرسة. قال: من أجل هذا قطعتم علي شغلي و أتيتم بي، و قام و انصرف.الأم، تبلد الإحساس، لا تقوم على حجاب بناتها، لا تمنع منكرات الحفلات، أساس الابن الذي تعود على شلة السوء، و سماع الغناء، و الألعاب المحرمة، و المعاصي داخل البيت و خارج البيت، مخدرات و فواحش. حتى بعض الذين هم في سدة التوجيه من معلم و نحوه، كم منهم ينكر المنكرات؟!، كم منهم يعلّم؟!، يوجّه؟ يربّي؟ يعظ؟ يقص القصص؟ يذكّر؟ قليل الذين يبذلون من أوقاتهم في هذا، حتى الطلاب تبلد إحساس كثير منهم، فهو لا يفيد و لا يستفيد. حتى رجل الشارع أحياناً تجد ليس لديه تفاعل مع قضايا المسلمين و ما يصيبهم من النكبات، و إذا وعظت الواحد فيهم في هذا، قال: يا أخي ما لنا و لهم، هؤلاء بعيدون عنا، هؤلاء في بلد بعيدة، ما لنا و لهم. أين مفهوم الأمة الواحدة و الجسد الواحد؟!، المصائب هذه التي تصيب المسلمين، أليس الذي لا يهتم بأمر المسلمين ناقص الإيمان؟، أليس الذي لا يحزن لما أصاب إخوانه المسلمين من المصائب ناقص الإيمان؟، أين حديث {مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى}، أجيوش الأعداء في البر و البحر و الجو و كثير من المسلمين نائمون؟، أالخطر يدق الأبواب و تبلد في الإحساس و لا كأن شيئاً يحدق و أخطار قريبة؟. لمّا دخل الصليبيون بلاد المسلمين، و عاثوا في الأرض فساداً من نهب و قتل، و قتلوا في بيت المقدس سبعين ألفاً في الحملات الصليبية الماضية، و ذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى بغداد مستغيثين بالسلطان، منهم القاضي أبو السعد الهروي، لمّا سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك و تباكوا، و نظم أبو سعد الهروي كلاماً قُرئ في الديوان و على المنابر فارتفع بكاء الناس، و ندب الخليفة الفقهاء للخروج إلى البلاد ليحرضوا الناس على الجهاد، و منهم ابن عقيل خرج مع الفقهاء فساروا في الناس -الرواية تقول- فلم يفد شيئاً، (همم ساقطة، نفوس مغلقة)، قال: فساروا في الناس و لم يفد شيئاً، فإن لله و إنا إليه راجعون. و يروي ابن تغري بردي أن قائلاً قال يستنهض الهمم و يصف الحال: أحـل الـكـفـر بـالإسـلام ضـيـمـاً يـطـول علـيـه للدين النحـيبُ فــحــقٌ ضــائــعٌ و حــماٌ مــبــاحٌ و سـيـفٌ قـاطـعٌ و دمٌ صـبيبُ و كم من مسلمٍ أمسى سليباً و مسـلمـةٍ لـها حـرمٌ سـليبُ أمـــورٌ لــو تــأمــلــهـــن طــفــلٌ لطفّل في عوارضه المـشيبُ أتسـبى المسـلمات بـكـل ثـغـر و عيش المسلمين إذاً يطيب فـقل لذوي الـبصـائـر حيث كانوا أجـيـبـوا الله ويـحكـم أجـيـبـوا و يضيف ذلك المؤرخ المسلم أن شعراء و خطباء استمروا يستثيرون الهمم و لكن دون نتيجة، ثم علق على ذلك بقوله: و المقصود أن القاضي و رفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة و لا حول و لا قوة إلا بالله. و تُقدم لنا المصادر الإسلامية صوراً أقبح من تقاعس بعض أولئك الذين تولّوا مقاليد الأمور في تلك الفترة أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبين في السواحل الشامية في القدس و غيرها، و قد جمع أحد الوفود المستنجدة كيساً كبيراً (أنظر إلى أي درجة وصل تبلد الإحساس، مصيبة عظيمة) أحد الوفود المستنجدة من المسلمين جمع كيساً كبيراً مليئاً بقحف الجماجم (جماجم المسلمين جمعها و التقطها و وضعها في كيس) و شعور النساء و الأطفال، و نثروها بين أيدي بعض أولئك الرؤساء، فكان جواب السلطان لوزيره: دعني، أنا في شيء أهم من هذا، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها. و قد كان يلهو بالحمام مولعاً به، و كان ذلك شائعاً بين الناس. (و هذا الخبر موجود في كتاب "النجوم الزاهرة"). لمّا دخل التتر بلاد المسلمين (مصيبة أخرى غير مصيبة الحملات الصليبية) و ارتكبوا من المذابح ما لم يُسمع به في التاريخ، و ذهب الناس يستنجدون برؤوس المسلمين هنا و هناك، و قدم الشيخ محي الدين ابن الجوزي إلى دمشق، رسولاً إلى الملك عيسى صاحب دمشق، فقال له إن التتار قد تغلبت على البلاد و قتلت المسلمين، فقال له: دعني، أنا في شيء أهم من ذلك، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها، و هكذا. و لذلك لمّا سقطت بلاد المسلمين في الأندلس، لمّا نقرأ الشعر الذي كتب في وصف ذلك، كشعر أبي البقاء الرندي –رحمه الله- ستجد فعلاً حجم المأساة، و تبلد الإحساس الموجود عند بعض المسلمين الذين طُلبوا لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه و نصرة إخوانهم، يعني هناك أناس أرسلوا بهذه الرسائل (الاستنجادات) من سواحل الأندلس إلى سواحل المغرب و المسافة قريبة، يقولون لإخوانهم: هلموا إلينا، المصيبة كبيرة لـكـل شـــيء إذا مــا تــم نــقــصــانُ فــلا يُــغَــر بـطـيـب الـعــيـش إنـسـانُ هــي الأمــور كــمــا شـهــدتـهـا دولٌ مـن سَــــــرّة زمـن ســــاءتــه أزمـــانُ فــجــائــع الــدهــر أنــواعٌ مـــنــوّعــةٌ و لـلــــزمـــــان مــســــراتٌ و أحــــزانُ و لـلـمــصــائــب ســلــوانٌ يـهــونــهـا و مــا لــمــا حــل بــالإســلام سـلـوانُ دهـــا الـــجـــزيــرة أمــرٌ لا عــزاء لـــه هــــوى لـــه أُحـــدٌ و إنــهــد ثــهـــلانُ فـاسأل بلـنـسـيـةً ما شأن مـرسـيـةٍ و أيـــن قـــرطـــبـــةٌ أم أيـــن جــيــــانُ و أيـن حـمــصٌ(كانوا يسمون مدن في الأندلس على أسماء بلاد الشام) و أيـن حـمــصٌ و ما تـحـويـه من نــزهِ و نـهــرهـــا الـعــذب فــيــاضٌ و مــلآنُ كـــذا طُــلــيـــطــلــةٌ دار الــــعــلـــومِ فكم من عـالمٍ قد سما فيـها له شـانُ و أيـــن غـــرنـــاطــةٌ دار الـــجـــهـــاد و كم أسدٌ بها و هم في الحرب عُقبانُ قــواعــد كــن أركـــان الــبــلاد فــمــا عسـى الـبـقـاء إذا لـم تــبـقـى أركــانُ و عـالــمٌ كـان فـيـه لـلـجـهـول هـدىً مــدرّسٌ و لــه فـي الـعــلـمِ تـــبـــيــانُ و عــابــدٌ خــاضــعٌ لــلّــه مــبـــتـهــلٌ و الـدمعُ مـنـه على الـخـديـن طــوفـانُ و أيــن مـالــقـةٌ مُـرسـى الــمــراكـب كم أرست بسـاحتـهـا فُـلـكٌ و غــربـانُ و كـم بـداخـلـهـا مـن شــاعــرٍ فـطـنٍ و ذي فــنـــون لـه حِــذقٌ و تــبـــيـــانُ و كـم بـخــارجـهـا مــن مــنــزهٍ فـــرجٍ و جــنــةٍ حـولـهــا نــهــرٌ و بــســـتــانُ و أيـن جـارتـهـا الــزهـرة و قــبّــتــهـــا و أيــن يــا قـومـي أبـطـالٌ و فـرســـانُ تبكي الحنيـفـيةُ البـيـضاء مـن أســفٍ كـمـا بـكـى لـفـراق الإلــف هــيــمــانُ حتى المحاريب تـبكي و هي جامـدةٌ (إذا تبلد إحساس الناس الجمادات لا تتبلد إحساسها) حتى المحاريب تـبكي و هي جامـدةٌ حـتى الـمـنـابـر تـبـكي و هـي عـيـدانُ عـلـى ديــارٍ مـن الإســلامِ خـالــيـــةٍ قـد أكـفــرت و لـهـا بــالـكـفــرِ عـمــرانُ (تحولت المساجد إلى كنائس) حـيـث المساجد قد أمست كنائس مـا فــيـهــن إلا نـواقـيــسٌ و صــلـبــانُ يـا غـافـلاً و لـه في الدهـر موعـظـةٌ إن كـنـت فـي سـنةٍ فـالـدهر يـقـظـانُ و سنعود لبعض أبياتها. إذا تبلد الإحساس، كيف ينبغي أن تُخاطَب النفوس؟ أيها الإخوة إن من تبلد الإحساس أيضاً أن تُفسَر الأشياء التي تجري في الواقع من أحداث و أمور يخلقها الله بتفسيرات طبيعية بحتة، يعني مثلا الزلازل، يقولون هذه ارتطام طبقات الأرض. ما أحد -إلا من ندر- يقول: هل هذا عذاب؟، هل هذا انتقام إلهي؟. كذلك في الأوبئة و الأمراض، يقولون هذا سببه كذا، و فيروس كذا، و دخل، و فعل، و حصل في الخليّة، و أثّر في المناعة. من الذي يفسر ذلك بأنه عقوبة إلهية لأهل الكبائر و المعاصي؟، و البشر لمّا ابتعدوا عن الشرع بماذا ابتلاهم الله؟، أحياناً تأتي ريح حمراء، ريح صفراء، لا يتفكرون فيها، و عندما تحدث الزلازل و يقوم بعض الدعاة بوعظ الناس، يأتي بعض هؤلاء المتبلدي الإحساس يقولون: تقولون لنا اتقوا الله، نحن ماذا فعلنا؟، هذه قشرة أرضية و صفحات في الأرض ترتطم ببعضها، ما دخل هذا...؟، سبحان الله العظيم!، إلى هذه الدرجة إذاً وصلت القضية في تبلد الإحساس. و لمّا يصير الكسوف، كاميرات، و ناس تصوّر، و نظّارات تقي من الأشعّة، أين أنت؟!، ما هذا التبلد؟ إلى هذه الدرجة، لماذا؟ لذلك أسباب منها: ضعف الإيمان بالله تعالى و اليوم الآخر، لو صح الإيمان بالله و اليوم الآخر ما غفل العبد. نظر الحسن البصري إلى أهل زمانه و قد تكالبوا، بعضهم انشغل بالدنيا و غفل عن الآخرة، مع أن ذلك زمن فضل و صحة في الأمة، قال: أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟ كلا، كذبوا و مالك يوم الدين. و كذلك فإن ما يصيب هؤلاء في الحقيقة نقص في العقل، لذلك يوم القيامة أهل النار يقولون: (.....لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (الملك 10). ثم من أسباب تبلد الإحساس أيها الإخوة: طغيان المادة على الناس، حب الدنيا، الانشغال بها، الولوه في أوديتها، و هكذا صارت القضية مادة في مادة، و حتى إذا صارت المسائل في أمور دينية شرعية تدخل المادة فيها، صار صلة الرحم تُقطّع لأجل المادة، بر الوالدين يُنسى لأجل المادة، إطعام المسكين يُنسى، إكرام الضيف يُنسى، هناك أشياء كثيرة تحدث من التغيرات في حياة الناس، الرسول عليه الصلاة و السلام قال: {.....ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم}. إذاً هذه الدنيا تُلهي، و أشراط الساعة منها كثرة المال، هكذا ينشغلون بها {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم.....} لماذا سماه عبد للدينار؟ لأنه صار يرضى من أجله و يسخط من أجله، يحب من أجله و يبغض من أجله، يحيا من أجله، يعمل من أجله (عبد الدينار، عبد الدرهم)، و هناك أناس عبدوا الوظائف، و إنهم يتفانون فيها و يتأخرون فيها و ينسون أهليهم و دينهم، حتى الصلاة التهوا عنها بهذا الركض وراء التجارات و الصناعات و المُساهمات، و {لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب (متى يملأه؟ عند الموت، إذا أُدخل في القبر و أُهيل عليه التراب) ويتوب الله على من تاب}. ثم ثالثاً من أسباب تبلد الإحساس: كثرة المعاصي التي انسلخ من كثير من القلوب قبحها و استقباحها، حتى صارت عادة لكثير من العصاة الذين يحيون عليها و يعيشون من أجلها، و فيها يرتعون، و عليها يجتمعون. شخص دخل مستشفى (المريض في العادة يقترب من الله، لأنه مُبتلى) و هذا في المستشفى يوزع سجائر ماريجوانا و يبيع في المستشفى. إذاً إذا كانت المسألة وصلت إلى هذه الدرجة من استيلاء المعاصي على هؤلاء، حتى في وقت الابتلاء يعصون الله، إذا كان على سرير المستشفى هو الآن يسمع الأغاني و يرى النساء المتبرجات و هو في حال الكربة، ما معنى هذا؟، أي حالٍ وصل إليه هؤلاء؟!، هذا الدرب من الناس هل يتوب؟، هل يعافى؟، إذا كان في الوقت الذي يؤمّل فيه أن يتوب، و يحتمل أن يرجع إلى الله هذا حاله، فما هي النتيجة المتوقعة؟. مسألة المجاهرة بالمعصية أيها الإخوة، الآن قضية المعاصي عند كثير من الناس ما صارت مستترة في البيوت، ما صار يغلق بابه على معصية، بل يجاهرون بها في الشوارع، في الأسواق، يعني النساء المتبرجات هؤلاء، التبرج هذا أمام الناس ما هو؟، أليس مجاهرة بالمعصية؟، و هؤلاء الشباب بهذه المناظر العجيبة من التشبّه بالكفار و تقليدهم، الذين يعملون المنكرات في الأسواق علانية، إذا كان هو يقترب من البنت في الشارع و في الأسواق علانية، يأخذ رقم، و يعطي، و يتكلم علانية، إذا كان يجلس في المطعم أمام الناس من وراء الزجاج علانية، و وُجِدت فواحش في مطاعم، ما معنى ذلك؟، أيها الإخوة تبلد الإحساس و المعاصي هذه وصلت لدرجة: رأيت الذنوب تُميت القلوب و قد يُورث الذل إدمانها و ترك الذنوب حياة القلوب و خيرٌ لنفسك عصيانها و لذلك فلابد من الحذر من المعصية و من التعود على المعصية، لأن التعود عليها مصيبة أكبر من اقترافها لأول مرة، (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) (الأعراف 100)، قضية الطبع و الختم هذه مصيبة، يتبلد الإحساس، الإنسان بعد ذلك لا يتأثر، لا يرعوي، لا يرجع، لا يتوب، لا يندم، لا يبكي، لا تدمع عينه، {تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا.....}، أرأيت توالي الأعواد في الحصير، كذلك المعاصي إذا جاءت على القلب متتالية ماذا يحدث؟، إذا قبلها و تشربها، تُحدث نُكَت سوداء، حتى يكون الران الذي ذكره الله، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (المطففين 14)، فيصبح القلب مُجخِّياً مقلوباً، يصبح كالكأس المقلوبة لا يمكن ملئه بأي شيء مفيد، يصبح مثل الصخرة الصماء لا يقبل شيئاً من الخير، يصبح أسود، مِرباد لا يعرف معروفاً و لا ينكر منكرا، و لذلك بعض الناس تقول: و ماذا فيها؟، و كأنك تتكلم عن قضية عادية مثل أكل أو شرب، مع أنه مقيم على كبيرة من الكبائر. قال النووي: إن الرجل إذا تبع هواه و ارتكب المعاصي، دخل قلبه كل معصية (بكل معصية تعاطاها) ظُلمةٌ، و إذا صار كذلك افتتن و زال عنه نور الإسلام، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (طه 124). الآن عصرنا عصر الإباحية و التعرّي و كشف العورات في هذه المواقع و هذه القنوات و هذه المجلات، ما هو أثر الإباحية في تبلد الإحساس؟، و دعونا ننتقل لكلام بعض الكفرة في هذا الموضوع لعله يكون عند بعض الناس أوقع. وجد عالم النفس دكتور إدوارد دورنستين من جامعة وسكنسون بأمريكا، بأن الذين يخوضون في الدعارة و الإباحية غالباً ما يؤثر ذلك في أنفسهم عدم الاكتراث لمصائب الآخرين و تقبّل جرائم الاغتصاب (هذا الكافر يلاحظ على قومه أن من انتشار الإباحية تصير نفوسهم فيها تقبُّل لجرائم الاغتصاب و تصير عندهم شيء طبيعي)، كما وجد عدد من الباحثين أن مثل هذه الإباحية تُورث عدم المبالاة لهذه الجرائم و تحقيرها، و قام الباحث الكندي جيمس شيك بدراسة عدد من الرجال الذين تعرضوا لمصادر مواد إباحية بعضها مُقتَرفة بالعنف و بعضها لا يخالطه العنف، و كانت نتيجة هذه الدراسة أن الباحث وجد في كلتا الحالتين تأثيراً ملحوظاً في مبادئ و سلوك هؤلاء، و تقبّلهم بعد ذلك لاستعمال العنف لإشباع غرائزهم، (هذا كلام أبحاث علمية من أناس كفار في رجال تعرضوا لتوالي صور و أفلام مكثفة من المواد الإباحية فكانت هذه النتيجة: تبلد الإحساس، يعني تقبُّل الجرائم، يعني تصبح الجريمة شيء عادي، ليست قبيحة، ليست مرفوضة، هنا الخطر، أن لا يصبح المنكر مرفوضاً، أن لا يصبح المنكر قبيحا) ثم الظلم من أسباب تبلد الإحساس، الإنسان إذا صار يظلم الخادم، و يظلم العامل، و يظلم شريكه، و يظلم أخاه، تعود على الظلم، يظلم مَن تحت يديه، تبلد إحساسه، الآن لو جاء شخص و قال له: ألا تخشى أن يخسف الله بك الأرض؟ ألا تخشى أن ينزل الله عليك عذاباً؟ ألا تخشى أن يأخذ الله روحك؟ إن الله يمهل و لا يهمل، يوجد تبلد إحساس في القضية، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ.....) (إبراهيم 42)، المسألة مسألة إمهال، إمهال ليزدادوا إثماً ثم يأخذهم، فإذا أخذهم كان الأخذ أليما شديدا، (.....أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (هود 18). قضية إدمان المخدرات و شرب الخمور المنتشرة الآن، ألا توجِد هذه تبلد في الإحساس؟!، الآن مدمني المخدرات هؤلاء هل عندهم إحساس مثلا بواقع المسلمين، و المعاصي، و انتشار الفساد، و قضية النهوض بالأمة، و وجوب النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف و الدعوة إلى الله، هل يحس هؤلاء بأهمية العلم الشرعي، و أهمية الإقبال على الله،...، المسألة هذه إذا انتشرت، و إذا صار نسبة كبيرة يتعاطونها (بلاء المخدرات بلاء عظيم)، الإحساس هذا ماذا سيكون حاله؟. ثم من الأسباب أن بعض العبادات تتحول عند بعض الناس إلى عادات و تمر مروراً عادياً جداً، مثل ما يحدث أحياناً نتيجة كثرة معاشرة بعض الأطباء للحالات الطارئة في أقسام الإسعاف و الحوادث، فلو جيء له بشخص مقطّع، قد لا يجد تفاعلات في نفسه، مثل مُغسّل الأموات، إذا كثر تغسيله للأموات في النهاية كما يخبرنا البعض يقول: في مغسلة الأموات في أحد المستشفيات يضحكون و هم يغسلون الميت يضحكون و يمزحون، إذا كثُر الإمساس قل الإحساس، لذلك لابد الواحد دائماً يعمل مراجعة دورية لهذه القضايا التي يمر عليها يومياً و ربما يكون له فيها موعظة و عبرة و هو لا يعتبر و لا يستفيد، لماذا قال النبي عليه الصلاة و السلام: {من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان ما عاش}، (و في رواية) {.....لم يصبه ذلك البلاء}؟، لو أنت كنت تراه كل يوم، -افترض يا أخي شخص يدرس في معهد الصم و البكم مثلا، و الناس هؤلاء الذين يعاشرون المعاقين يومياً- ربما يصير عندك تبلد إحساس في قضية نعمة البصر و السمع، بينما الذي يراها بين فترة و أخرى تُحدث في نفسه تفاعلاً فيرى نعمة الله عليه، و لذلك فلابد من مراجعة للنفس في هذه القضية. و هناك من أسباب تبلد الإحساس أيضاً الأعمال الآلية، لقد وجد من نتائج بعض الأبحاث العلمية، أن الأشخاص الذين يمارسون أعمال ورقية باستمرار أو أعمال متعلقة مثلاً بجهاز الكمبيوتر باستمرار يحصل عندهم شيء من التبلد، و قد يكون هذا التبلد ذهني أكثر ما يكون تبلد قلبي، و لذلك ذكر ابن حجر –رحمه الله- في كتاب "شجرات الذهب" في ترجمة أحد أهل العلم، و لا داعي لذكر اسمه قال: نشأ محباً في العلم و حفظ القرآن و عدة مختصرات، و تعانى الأدب فمهر فيه، قال ابن حجر عنه: و بالجملة كان عديم النظير في الذكاء و سرعة الإدراك، إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ (يعني ما عاد تنقدح في ذهنه المسائل أو الاستنباطات، و تأتي في ذهنه هذه الأشياء بالمهارات هذه نتيجة أنه كان دائماً يتعاطى النسخ بطريقة معينة (آلية)، و هذه الأشياء الآلية أحياناً تُفقد الذهن طراوته). هذه المسألة قل إنها ربما لا تكون مباشرة في صلب موضوعنا لكن الإنسان عليه أن يجدد، حتى الذين يمارسون بعض الأعمال الوظيفية أو التجارية إذا وجد فرصة أن يجدد فليجدد لأن ذلك يثري خبرته و تجربته و يحيي ذهنه و يجعله و قاداً. لكن يا إخوان عودة إلى موضوعنا، عدم محاسبة النفس من أسباب تبلد الإحساس، طول الأمل و عدم التفكر في الموت من ذلك، الأمنيات الزائفة، التسويف، مخالطة البطّالين، كثرة الانشغال بالمباحات، عدم الاشتياق إلى الجنة و إلى لقاء الله، اللهو، المناصب، الأموال، الألعاب (الألعاب الإلكترونية)، صدّق بالله أن هذه السوني بلاي إستيشين جعلت عند أولادنا من تبلد الإحساس ما الله به عليم، فعلاً صار الولد إذا خاطبته، إذا كلمته، كأنه في كرة من زجاج هو في الداخل و أنت في الخارج، فهو يرى شخص يشير فقط، يشير بعينيه و أصابعه و شفتيه تتحركان، لكن لا يفقه و لا شيء من الأشياء، و ربما نحن أطلقنا لهم العنان في أشياء أضرّت بهم. ثم أن من نتيجة تبلد الإحساس أن المنكرات عند بعض الناس تخف شيئاً فشيئاً، فمثلاً كان بعض الناس يقول أن الذي لديه هذه القنوات المجاورة هذا يعتبر الآن شيء جيد، بالنظر إلى ماذا؟ إلى ما جاء بعد ذلك من قنوات عرب سات، و لما جاءت قنوات عرب سات صار يقول: هذا ليس عنده إلا قنوات عرب سات هذا طيب لأن هناك أشخاص لديهم الديجيتل، و هكذا كل حال أنسانا ما قبله، و كل ما جاءت قضية بعد قضية صار الذي كان يرتكب هذا المنكر من قبل جيد الآن، جيد بالنسبة للأسوأ منه، و صارت المقارنة بالأسوأ، و هذه قضية لا تنتهي، لأنك الآن لو قلت: فلان لا يصلي مع الجماعة، قالوا: هذا طيب، فهناك أناس لا يصلون الفجر أصلاً، و لو قلت: فلان لا يصلي الفجر، يقولون: هناك أناس لا يصلون الصلوات الخمس كلها، و لو قلت: فلان لا يصلي الصلوات الخمس، يقولون: لكن يعرف الله و هناك شيوعي لا يعرف الله. فإذاً صارت المسألة مقارنات بالأسوأ و هذا من تبلد الإحساس. ما هو حال نبينا –صلى الله عليه و سلم-؟ و ما هو حال سلفنا الصالح في هذه القضية؟، كيف كانت قلوبهم حية؟، كيف كانت نفوسهم مُقبلة؟، كيف كان عندهم هذا الانتعاش القلبي الإيماني؟، كيف كانوا يحيون هذه الحياة الكريمة؟، كيف كان عندهم إقبال على الله و العبادة و الطاعة، و محبة أهل الخير و الصلاح، و المسارعة في الخيرات، و التباطؤ و البعد عن المعاصي؟. القلوب الحية قضية معاكسة لتبلد الإحساس، القلوب الحية إذا رأت مظاهر أو أشياء (حالات) تتفاعل معها، عن عائشة أنها قالت: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته (ما حصل أنها رأته يقهقه حتى ظهرت اللهوات أبداً) إنما كان يتبسم قالت وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقالت يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية قالت فقال يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا (.....هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا.....)} (عارض يزول، سحاب يمطر و يمشي، (.....بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (الأحقاف 24)، إذاً كان هذا فزعه عليه الصلاة و السلام إذا رأى غيماً، غيم في المدينة النبوية التي فيها الرسول عليه الصلاة و السلام و الصحابة، و معقل الإيمان، دار الإيمان، عاصمة الإسلام، إذا رأى فيها غيم قال ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، و الآن أنظر تمر غيوم و تمر سحب و تراكمات، و ربما لا يخطر ببال الإنسان أصلاً أن يفكر من هذه الجهة، و قبل يومين لمّا تغير لون السماء، قالوا: هذا كيماوي.
يتبع ....