عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى: أفمَن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمَّن أسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين [التوبة:109]. أفمن أسس حياته ومستقبله، على تقوى الله تعالى ورضوانه، على خوف من الله, وخشية لله, خيرٌ أمَّن أسس حياته ومستقبله على معصية وتمرُّد، وتَعَدٍّ وانتهاك لحدود الله وحُرُماته. ومن سُنّة الله تبارك وتعالى أن ينصر أوليائه، وأن يحفظ أحبابه، وأن يؤيد عباده. إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إنّ الله لا يحب كلّ خوّانٍ كفور [الحج:38]. ومن سُننه كذلك أن يخذل أعداءه، وأن ينتقم ممن عاداه وحادَّه. ولذلك لمّا رجع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، من غار حراء خائفاً وجلاً بعد أن جاءه جبريل، وظنّ أنه سيموت أو سيهلك أو سيُخزى، لأنه رأى صورة ما رآها من قبل، فقالت له خديجة، رضي الله عنها، وأرضاها: كلا والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لَتَصِلُ الرحِم، وتحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"[1]. فاستدلّت – رضي الله عنها – بحُسن أفعاله، وبجميل سيرته على أنّ الله لا يُخزيه أبداً. هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله ؟. هل رأيتم صادقاً أسلَمه الله ؟ هل رأيتم مُحسناً ضيّعه الله ؟ إنما يُخزي الله أعداءه ومَن نادّه.. أهل المعاصي والهوى.. أهل الفواحش والسيئات، هم الذين يُخزيهم الله تعالى ويقطع عنهم حبلَه ومدَده. أما أهل الجود والصدقة والمعروف، فإنّ الله – عز وجل – معهم مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261]. ويقول الشاعر عن البذل والجود: ولم أرَ كالمعروف أما مذاقه فحلوٌ وأما وجهه فجميل وقد بيّن ابن القيّم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين، مراتب الجود ودرجاته. فأعظم درجات الجود ومراتبه: الجود بالنفس، ليس هناك أكرم ممن يجود بنفسه في سبيل الله – عز وجل -. فيا مَن يبخل بدرهمه وديناره.. أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله. يجود بالنفس إن ضَنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود جاء الصحابة في بدر، لا يملكون من الدنيا شيئاً، لا مال، ولا عقار، ولا سلاح، وإنما كانوا يملكون نفوساً أبيّة، وأفئدة طاهرة، باعوها لله الواحد الأحد، إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة [التوبة:111]. رفعوا سيوفهم ظاهرين مقبلين، وقالوا: يا رب، لا نملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، إنما نملك نفوساً قد وَهَبناهَا لك، فتقبّلها منّا، وجئنا ببضاعة مُزجاة فتصدق علينا. ومن الذي باع الحياة رخيصـة ورأى رضاك أعزّ شيء فاشترى أَمّن رمى نار المجوس فأُطفئَت وأبان وجـه الصبـح أبْلج نيّـِرا ومن الـذي دَكُّوا بعـزم أكفِّهم باب المدينـة يـوم غـزوة خيبرا خالد بن الوليد، باع نفسه لله، جعفر الطيّار، عبد الله بن رواحة، صلاح الدين، محمود بن سُبُكتكين، وأبناء محمود من المجاهدين الأفغان قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله – عز وجل -. أرواحنـا يا رب فـوق أكُفِّنا نرجو ثوابك مغنمـاً وجوارا كنا نرى الأصنـام من ذهب فنهدمُها ونهدم فوقها الكُفّارا لو كان غير المسلمين لحَازَها كنزاً وصاغ الحُلْي والدينارا أيها المسلمون: ومن مراتب الجود أيضاً: الجود بالعلم، وهو من أشرف المراتب، وبذلُه للناس من أعظم القُرَب إلى الله تعالى، وهو أشرف من الجود بالمال، كما ذكر ابن القيم رحمه الله، فيا دعاة الإسلام، ويا طلبة العلم، ويا حمَلَة الشهادات العالية، الأمة ماتت جهلاً، وشركاً وتخلُّفاً, وضياعاً، فمن يُنقذها بعد الله إلا أنتم؟ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّنُنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون [آل عمران:187]. اشتروا به مناصب ,ووظائف، وتكدّسوا في بيوتهم، والأمة غارقة في الجهل، وفي الشرك، وفي الخرافة، فبئس ما يشترون. ووالله لساعة واحدة يقضيها المسلم في طلب العلم خير له من الدنيا وما فيها. هو العَذْب المهنّد ليس ينبو تُصيبُ به مَضاربَ من أردتَ وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحِمْل يوجد حيث كنتَ يزيد بكثرة الإنفـاق منـه وينقـص إن بـه كفّاً شـددتَ ومن وصايا عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – لِكُمَيل بن زياد، يا كُميل: العلم خير من المال.. العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تُنقصه النفقة. يقول تبارك وتعالى: إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم [البقرة:159160]. ونسأل أيها المسلمون. كم من العلماء في بلادنا ؟ كم من الدعاة؟ كم من القضاة، ومع ذلك فالقُرى جاهلة، والبوادي تعيش في الخرافة، وكثير من الناس لا يعرفون أحكام دينهم، ولا أمور شرعهم، ظمئى وحولهم، ولكن بخل أهل الماء به، وصدوا الناس عنه. إنّ مَن بخل بعلمه، بالنور الذي يحمله، بالهدى الذي في صدره، لَهُو أشدّ ذمّاً ومَقتاً وبخلاً ممن بخل بماله. إنّ أهل الباطل ودعاة التخلف، يبذلون ما عندهم من الباطل، وينشرونه بين الناس، ويودّون أن لو يصل باطلهم إلى كل إنسان على وجه هذه الدنيا. إنّهم تكلّموا، وكتبوا، وحاضروا، وأنتجوا، وطبّلوا، وزمّروا، وغَنّوا، ورقصوا؛ دعاية لباطلهم، ونشراً لعفنهم، بينما يستحي كثير من شباب الإسلام؛ أن يُعلِّم جاهلاً آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها المسلمون : من مراتب الجود أيضاً: الجود بالمال، ونحن – بحمد الله تعالى – نعيش في هذه البلاد عيشة هنيئة كريمة لا تتوفر في معظم بلاد الدنيا، فماذا قدمنا لأنفسنا، وماذا قدمنا لديننا؟. هل قدمنا للقبر، هل قدمنا للصراط، هل قدمنا ليوم الكُرُبات والفضائح؟ لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يَشْكون الحاجة والفقر، مَدِينٌ لا ينام الليل، فقير لا يجد قوت يومه، مريض لا يملك ثمن الدواء، هرِمٌ ليس له إلا الله تعالى، فمن لهؤلاء إن أغلقتم أبوابكم دونهم؟ واعلموا أيها الناس: أنّ مَن قدّم خيراً فإنما يُقدّم لنفسه وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله [البقرة:110]. الخير أبقى وإن طال الزمان به والشرُّ أخبث ما أوعيْتَ من زادك يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه؛ إلا ملَكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكاً تلفا))[2]. فمن أراد أن يُخلف الله عليه، وأن يُبارك له في رزقه، وفي دَخلِه، فليُنفق على الفقراء، على المجاهدين، على المساكين، في مشاريع الخير، فكل ذلك من أبواب البر. وإذا كان بعض الجاهليّين لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، وهم وثنيّون، لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً، فما بال أهل الحق يَبخلون بفضل الله على عباد الله!!. ابن جُدْعان رجل جاهلي، ما عرف لا إله إلا الله، ما سجد لله، عنده صِحاف تُعرض كلّ صباح فينادي مُناديه على جبل أبي قُبيص في مكة: من أراد الإفطار فليَأتِ، فتُحاط صحافه بالمساكين، فإذا كان الظهر، ملأ صِحافه باللحم والخبز ونادى مُناديه: من أراد الغداء فليَأت. ولذلك قال أمية بن أبي الصلت في آل جدعان: لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لِتَطلُّب الحاجـات بالعيـدان بل يُشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألـوان وإذا دعا الداعي ليـوم كريهة سدّوا شُعاع الشمس بالفرسان ومن الجود أيضاً أيها الناس، الجود بالجاه والوجاهة والمنصب، فبعض الناس آتاه الله الجاه والمنصب، يعرفه المسئولون بوجاهته، ويقبلون شفاعته، ويُقدّمونه على الناس، والله تعالى يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نُؤتيه أجراً عظيماً [النساء:114]. ويقول - سبحانه -: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفلٌ منها وكان الله على كلّ شيء مُقيتاً [النساء:85]. فيا أيها المسئولون في هذه البلاد وفي غيرها. ويا من أنعم الله عليكم بالجاه والمنصب. هذه والله بُشرى لكم. شفاعتكم للمحتاجين، قضاء حوائج المسلمين، دفع الظلم عن المظلومين، السعي على مصالح الأرامل والمساكين، كلامك إلى المسئول، إلى الأمير، إلى الوزير في مصالح هؤلاء، له أعظم الأجر عند الله تعالى، حيث يشفع لك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، يوم لا ينفع جاه ولا منصب. ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها، كما يفعل الذين تبلّدَت عقولهم، وخربت ذِمَمُهم، في الإضرار بالمسلمين، وتنغيص عيشهم، واضطراب أمورهم، ويحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم، وسيندمون على ذلك أشدّ الندم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89]. ومن الجود أيضاً، الجود بالوقت والراحة، وذلك بأن تجعل جزءًا من وقتك لإخوانك المسلمين، تعود مريضاً، فتُدخل على قلبه البهجة والسرور، وقد تكون زيارتك له سبباً في شفائه، وغرس شجرة الأمل في نفسه. وكذلك تَفقُّد ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والضَّعَفة، والله تعالى يقول: ما عندكم ينفدُ وما عند الله باق [النحل، الآية:96]. فما أحسن المعروف، وما أحسن الجميل. يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "ما أحسن الجميل، والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسَناً، وما أقبح القبيح، والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً". جاءه رجل فاستحى أن يسأله، فكتب حاجته على التراب، فقال علي – رضي الله عنه – أمسكتَ ماء وجهك، وأعفيتنا من ذلّ سؤالك، لألَبّيَنّ مسألتك، فكساه وآتاه مالاً، فقال الرجل: كسوتني حُلّة تَبلى محاسنها لأكْسُونَّك من حُسن الثنا حُللا والثناء من أحسن ما وضع الله للناس في الأرض. وأنما المرء حديثٌ بعده فكُن حديثاً حسناً لمن وعى حاتم الطائي نذكره اليوم وهو مشرك لا يعرف رباً ولا ديناً، ولكنه كان جواداً فبقي ذكره في الدنيا جزاءً وِفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً. فيا عباد الله: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً تلظّى، قوا وجوهكم من لَفح النار؛ بالمعروف، بالكلمة الطيبة، بالبسمة، بالصدقة، بالزيارة، بالشفاعة، بما يرضيه سبحانه وتعالى. غفر الله لي ولكم، أنقذني الله وإياكم من النار، هداني الله وإياكم سواء السبيل. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[rtl][1] أخرجه البخاري ( 1 / 3) . ومسلم ( 1 / 141 ) رقم ( 160 ) .[/rtl] [rtl][2] أخرجه البخاري ( 2/120 ) . ومسلم ( 2 / 700 ) رقم ( 1010 )[/rtl] |