يا بني
محمد الدويش
المحتويات
مدخل بين يدي الرسالة
حديث حول العقوق
حين يخطيء الوالد
حديث من شيخ إلى شاب
1. مشكلة الشهوة
2. ما الأمر الذي يهمك؟
3. قصة مجتمعك
مدخل بين يدي الرسالة
معشر الإخوة الكرام: إن المصارحة مع أنفسنا مطلب ضروري، والتخلي عنها لايسهم إلا في دفن الحقائق، وخلق سحب وضبابية حول كثير من أخطائنا، وصنع الأسلاك الشائكة حول أرض المحاسبة، وخلق الخطوط الحمراء ستكون ضريبته استمرار الأخطاء وتضاعف التجاوزات.
إن مواجهة النفس، والتخلص من الحيل النفسية مطلب ملح هو الآخر ولن يجني غيرنا ثمرة المخادعة والتزويق.
معشر الإخوة الكرام: ثمة مشكلات في حياتنا الاجتماعية، وأخطاء، وتجاوزات: في علاقة الأب بأبنائه، والابن بوالديه، والزوج بزوجته، والزوجة بزوجها. والمدير بالموظف، ورب العمل بالعامل. وحين نكون جادين في التخلص من هذه المشكلات وتصحيح هذه الأخطاء فلا مناص من طرح هذه الموضوعات تحت ضوء الشمس فلم تعد أسراراً، بل صار يدركها حتى المغفل، ويبصرها الأعشى والأعمش.
ولاشك أن ذلك يعني أن تثار بمحضر الخصم، وبمسمع الطرف الآخر، فسوف يسمع الابن مشكلة أبيه، والزوجة مشكلة زوجها، وقد يكون هناك حساسية وحرج ولكن: لماذا تطغى هذه الحساسيات على تفكيرنا لتكون عائقاً عن أي خطوة في التصحيح والمصارحة، ولماذا نتوهم أن مشكلاتنا لايعلم عنها غيرنا؟
معشر الإخوة الكرام: إن الحقيقة مرة، والمصارحة مؤلمة. لكن ذلك أهون بحال من مرارة النتائج الفادحة لاستمراء الخطأ وإلف المخالفة.
لقد طرحنا قضية الآباء ومشكلاتهم مع أبنائهم في رسالة واضحة بعنوان (يا أبت). وآن الأوان لطرح الحوار مع الطرف الآخر فإلى رسالة يا بني:-
يا بني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:-
فأحمد الله إليك وهو للحمد أهل، وأثني عليه ولا أحد أحب إليه الثناء منه عز وجل. ثم إني مسطر لك كلمات خطها مداد النصيحة، ومعبر لك عن كوامن في الصدر فجرها دافع المحبة. فمعذرة يا بني إن كان في الألفاظ خشونة، أو كان في التعبير قسوة لكنها قسوة المحب. والدرن يا بني قد لا يزول إلا مع بعض القسوة.
يابني: تتسابق الكلمات، وتتدافع الموضوعات حين أريد أن أسطر لك. فأشعر أن حيز هذه الرسالة قد لا يتسع لما أريد قوله. فآثرت أن أشير إلى أهمه، تنبيهاً وتلميحاً، والحر تكفيه الإشارة. وما لم أسطره لك يابني فإنما حال دونه شعوري أنه مستقر لديك ولم يعد بحاجة إلى إشارة . أو شعوري بأن غيره احتل المساحة دونه.
يابني: تحوم هذه الرسالة حول البر وحقيقته، وترحل بك إلى واقع السلف لترى نماذج من ذلك. وتعرج على شؤم العقوق ووباله، منبهة على العقوق في الفكر والمنهج وهو نوع معاصر من العقوق. ثم تدلف بك إلى وصايا حول الفتن والشهوات، والاهتمامات والدوافع. مذكرة لك. بمواعظ عاجلة. حاكية لك قصة هذا المجتمع مما لم تره بعينك ورآه والدك. ورأيت يا بني تسهيلاً عليك. أن أجعلها في فصول متتابعة: فصل عن البر. وفصل عن العقوق. وفصل بعنوان حين يخطئ الوالد. وفصل بعنوان حديث من شيخ إلى شاب. وفصل بعنوان قصة مجتمعك. وفصل بعنوان مواعظ ووصايا.
فأرعني سمعك وحكم عقلك، وقبل ذلك موازين الشرع المطهر.
يا بني: ها أنت بلغت سن التكليف، فأصبحت رجلاً مسؤولاً عن أعمالك، ومحاسب مجزي عليها. يا بني : إن بلوغك يعني أنك أصبحت مخاطباً بسائر التكاليف الشرعية. فقد جاوزت مرحلة الطفولة إلى غير رجعة، ودخلت بوابة جديدة إلى الحياة. وآن لي أن أبوح لك بحديث طالما كان يعتلج في صدري، ويكنه فؤادي، كان يحبسه انتظار بلوغك ما بلغت الآن. ومع ما كان يعتلج في صدري، ويدور في خاطري فقد قلبت الطرف، وقرأت ما سطره بعض الأوائل والأواخر، من رسائل لأبنائهم، ووصايا لفلذات أكبادهم، فضمنت وصيتي بعض ما قالوه، وزينتها ببعض ما صاغوه. فهل أنت مصغ لي سمعك؟. وفاتح لي فؤادك؟ عل الله أن ينفعك ببعض ماتسمع.
يا بني: كم كان سروري وأمك حين بلغنا نبأ حملها بك، وكنا نتردد على الطبيب للفحص والمتابعة. وحين كانت تلك الساعة التي خرجت فيها إلى الدنيا. لم تكن تدري كم كان مبلغ سرورنا، وبهجتنا
لقد كانت آمالنا معقودة عليك، وكنا ننتظر تلك الساعة التي تبلغ فيها السعي، كانت أمك تردد في نفسها، وتناجيك وأنت صغير رضيع تؤمل الآمال العريضة، وتتمنى الأمنيات الغالية أن تبلغ ما تبلغ.
وكان والدك لا يقل عنها حالاً، إلا أن خواطره كانت حبيسة الفؤاد، تعتلج في صورة أمنيات.
يا بني: طالما سمعت أن الله قرن حق الوالدين بحقه [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً]. إن هذا وحده يا بني كاف في تعظيم حق الوالدين وعلو شأنهما. كاف دون سرد الأمثلة والنماذج والشواهد.
يابني: لم يأمر الله بالذل إلا للوالدين والمؤمنين [واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا].
يابني: الجهاد ذروة سنام الإسلام وتحديث النفس به شرط للبراءة من النفاق. ومع ذلك يابني فإذن الوالدين شرط للمشاركة في الجهاد فقد استأذن رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "أحي والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". متفق عليه من حديث عبدالله بن عمرو.
وروى هذا المعنى مسلم من حديث أبي هريرة. وأبويعلى والطبراني من حديث أنس. والوقت يابني يطول عن سرد النصوص في ذلك.
يابني : يبلغ حق الوالدين درجة لا تسقط معها الصلة حتى ولو كانا مشركين [وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما] وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صِلِي أمك".
يابني : أتدري من أحق الناس بحسن صحابتك؟ سأل رجل هذا السؤال النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائلاً :من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمك"، قال: ثم من؟ قال:"أمك"، قال ثم من؟ قال: "أبوك".
يابني : كم يحتل أصدقاؤك من مكانة في قلبك تستوجب قائمة طويلة من التضحية، والإيثار، والمشاورة، والمجاملة؟ ولكن ألا تعلم يابني أن أمك، وأباك أحقُّ الناس بحسن صحابتك.
أتريد يابني أن تعرف عظم وجد الأم على ابنها فاسمع معي هذه الأبيات:-
لأمك حق لـو علمت كبيــــر*** كثيرك ياهذا لديه يســيــر
فكـم ليلة بــاتت بثقلك تشتكي *** لها من جؤاها أنة وزفيـــر
وفي الوضع لوتدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينـها *** وما حجرها إلا لديك سريــر
وتفديك مماتشــتكيه بنفسـهـا *** ومن ثديها شرب لديك نميـر
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتهــا *** حناناً وإشفاقا ًوأنت صغيـر
يابني: أتدري كم يبلغ فرط الأم وشوقها عليك حين تغادر المنزل حتى تعود؟ كم مرة أيقظتني من النوم لتقول: إن ابني لم يعد، كم مرة أزعجتني حين سافرت لتسأل متى يعود؟ وما شأنه؟ وأنت يابني سادر تعيش في عالم آخر. فتغيب عن المنزل دون أن تشعرها، وحين تسافر تنتظر اتصالك على أحر من الجمر لكنها لاتجد إلا اللامبالاة. أهذا حق أمك يابني؟.
يابني !: إنكم حين تواجهوا أنفسكم بالسؤال الصريح وتبحثوا عن موقعكم في خارطة البر أو العقوق، تدركون لماذا يكرر ويبدأ الموضوع ويعاد، لست بحاجة يابني لأفيض في الحديث عن حق الوالدين وعظم منزلتهما، لكني أسألك بصراحة أن تحدد موقعك أفي سياج البر، أم العقوق.
يابني : أتريد رضا الله عز وجل. فهو مرتبط برضا الوالد يخبرنا بذلك أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى فيقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عبدالله بن عمرو :"رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد".
أرأيت يابني أي بوار وهلاك يجنيه من يسخط والده، حيث يستجلب على نفسه سخط رب السماء والأرض؟. ومن ذا يابني يطيق هذا الوعيد الشديد؟
يابني : إن الجنة مطلب الجميع، ومسعى من سهروا وهجروا الرقاد ،ومطلب من بذلوا الأرواح والمهج رخيصة للّه. أتدري بعد ذلك يابني أن الوالد أوسط أبواب الجنة.
ويندب صلى الله عليه وسلم من أضاع هذه الفرصة فيقول: " رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يارسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة " رواه مسلم.
يابني : إن الدعاء هو الملجأ للمسلم حين تدلهمُّ به الخطوب، وحن تقفل الأبواب أمامه. أتعلم أن بر الأم من أسباب إجابة الدعاء؟ لقد كان أول الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعا الله بصالح عمله: رجلا بارًّا بأمه.
وخير التابعين أويس القرني رضي الله عنه كان برًّا بأمه فكان مجاب الدعوة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أن يطلب منه الدعاء. وهذا فوق أنه شهادة بر وصلاح لأويس فهو رسالة إلى كل من كان له أم أن برها من أسباب استنزال النصر، واستحقاق إجابة الدعوة.
فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لـــما تدعو إليه فقــــير
يابني : أعرفت الآن أن البر ينتج لصاحبه رضا الله، ودخول الجنة، وإجابة الدعاء؟
يابني : توهم نفسك كثيراً أن حق والديك عليك أعظم، وأنك وفيٌّ لهما بارٌّ بهما. لكني أذكر أنك ذات يوم اعتذرت عن إجابة دعوة أمك محتجاً بالتعب والإرهاق، وحينها قدم زميلك محمد وهو شاب خير لا مطعن فيه، فنسيت ما بك من بأس وفقدت التعب والإعياء، أهكذا يابني مفهوم البرِّ لديك؟
يابني : إليك صورة من حقيقة البر؛ لتدرك أن إحضار الخبز، أو الإيصال لزيارة، أو الوفاء بمطلب ليس هو منتهى البر وأداء الحق.
عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه " رواه مسلم وأهل السنن.
ويدرك ابن عمر رضي الله عنهما أن البر يمتد حتى بعد موت الوالد فيلقى أعرابياً في الطريق فيركبه راحلته، ويعطيه عمامة له على رأسه . فقيل له إنهم أعراب يرضون باليسير. فيقول رضي اللّه عنهما إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه" رواه مسلم.
يابني : نقف وإياك سريعاً مع بعض صور البر لدى سلف الأمة علك تدرك أن الكثير مما يظنه البعض من شبابنا براً لايرقى لذلك:
محمد بن المنكدر الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام كان براً بأمه وكان يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه قومي ضعي قدمك على خدي. وقال سعيد بن عامر عنه: بات أخي يصلي وبت أغمز قدم أمي ، وما أحب أن ليلتي بليلته.
وكهمس الحنفي البصري العابد أبو الحسن من كبار الثقات. أراد قتل عقرب فدخلت في جحر فأدخل إصبعه خلفها فضربته، فقيل له. قال خفت أن تخرج فتجىء إلى أمي تلدغها.
وعبدالله بن عون الإمام القدوة عالم البصرة نادت أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
وابن سيرين شيخ الإسلام مولى أنس رضي اللّه عنه إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
أما عروة بن الزبير الإمام الفقيه فتزداد حساسيته فيرى أن من شد الطرف إلى والده فلم يبره.
ولقد كانت الرحلة في طلب العلم من أشد مايعنى به السلف، وكانوا يعدونها كالماء للسمك. والهواء للطائر. ومع ذلك تركها جمع منهم براً بأمهاتهم. وممن فعل ذلك يابني بُندار الإمام الحافظ راوية الإسلام، وأبو العباس أحمد بن علي الأبار الحافظ المتقن الإمام الرباني، والإمام العلامة محدث الشام الحافظ ابن عساكر، وغير هؤلاء كثير.
يابني : لقد أتبع الله العقوق والعصيان بالشرك به [قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً] وهاهو معلم البشرية ومرسي معالم العلاقات الإنسانية صلى اللّه عليه وسلم يربط العقوق بالشرك باللّه، ويدرجه ضمن قائمة أكبر الكبائر.
يتبع ...