دراسات في الباقيات الصالحات
د عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
المقدّمة
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهلٌ، وأُثني عليه الخير كلَّه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأصلِّي وأسلّم على خاتم رسله وأنبيائه، وإمام أوليائه وأصفيائه، نبيّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على جميع المسلمين ما للكلمات الأربع: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) من مكانة في الدّين عظيمة، ومنزلة في الإسلام رفيعة، فهُنَّ أفضل الكلمات وأجلهنَّ، وهنَّ من القرآن، وهنَّ أطيب الكلام وأحبّه إلى الله، وأحبُّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلِّ ما طلعت عليه الشمس، وفيهنَّ رفعٌ للدرجات وتكفيرٌ للذنوب والسيّئات، وجُنَّة لقائلهنَّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنَّ ومقدّمات له، إلى غير ذلك من صنوف الفضائل وأنواع المناقب، ممّا يدلُّ على عظيم شرف هؤلاء الكلمات عند الله وعلوِّ منزلتهنَّ عنده، وكثرة ما يترتَّب عليهنَّ من خيرات متواصلة وفضائل متوالية في الدنيا والآخرة، لذا رأيت أنَّ من المفيد لي ولإخواني المسلمين أن أجمع في بحث مختصر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل لهؤلاء الكلمات الأربع مع بيان دلالاتهنَّ ومقتضياتهنَّ، وقد جعلت ذلك كلَّه في مقدّمة - وهي هذه - وخمسة مباحث وخاتمة كما يلي:
المبحث الأول: في ذكر النصوص الدالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع.
المبحث الثاني: لا إله إلاَّ الله، فضلها ومعناها وشروطها ونواقضها، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضائل كلمة لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثاني: مدلول ومعنى لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثالث: شروط لا إله إلاّ الله.
المطلب الرابع: نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله.
المبحث الثالث: في التسبيح فضله ومكانته ومدلوله، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضل التسبيح.
المطلب الثاني: تسبيحُ جميع الكائنات لله.
المطلب الثالث: معنى التسبيح.
المبحث الرابع: في الحمد، فضله وأنواعه ودلالته، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه.
المطلب الثاني: المواطن التي يتأكّد فيها الحمد.
المطلب الثالث: في بيان موجبات الحمد وأنواعه.
المطلب الرابع: أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها.
المطلب الخامس: تعريفُ الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر.
المبحث الخامس: في التكبير فضله ومعناه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فضل التكبير ومكانته من الدِّين.
المطلب الثاني: في معنى التكبير وبيان مدلوله.
الخاتمة: في بيان التلازم بين هؤلاء الكلمات الأربع.
وسمَّيته ((دراسات في الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر))؛ لأنَّ هؤلاء الكلمات الأربع هنَّ أفضل الباقيات الصالحات، واعتمدتُ في أغلب الأحاديث على أحكام العلاَّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يرحمه الله.
وإنِّي أرجو الله أن يكون في ذلك النفع لي وللمسلمين، إنَّه وليُّ التوفيق والسداد.
المبحث الأول: النصوص الدّالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع
لقد ورد في فضل هؤلاء الكلمات الأربع نصوصٌ كثيرةٌ تدل دلالةً قويةً على عظم شأنهنَّ وجلالة قدرهنَّ، وما يترتّب على القيام بهنَّ من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ، وخيراتٍ متواليةٍ في الدنيا والآخرة، وفيما يلي عرضٌ لجملة من فضائل هؤلاء الكلمات:
أولاً: فمِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحبُّ الكلام إلى الله - تعالى - أربع، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[1]، ورواه الطيالسي في مسنده بلفظ: "أربع هنَّ من أطيب الكلام، وهنّ من القرآن، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[2].
ثانياً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنَّ أحبُّ إليه مِمَّا طلعت عليه الشمس (أي: من الدنيا وما فيها)، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس"[3].
ثالثاً: ومن فضائلهنَّ: ما ثبت في مسند الإمام أحمد، وشعب الإيمان للبيهقي بإسناد جيّد عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: "إنِّي قد كبرتُ وضعُفت - أو كما قالت - فمُرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال: "سبّحي اللهَ مائة تسبيحة، فإنَّها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لكِ مائة فرس مُسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكَبِّري اللهَ مائة تكبيرة فإنَّها تعدل لك مائة بدَنة مُقلّدة متقبّلَة، وهلِّلي مائة تهليلة - قال ابن خلف (الراوي عن عاصم) أحسبه قال -: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به"[4]. قال المنذري: رواه أحمد بإسناد حسن[5]. وحسّن إسناده العلامة الألباني حفظه الله[6].
وتأمَّل هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، فمن سبّح اللهَ مائة، أي قال: سبحان الله مائة مرّة فإنَّها تعدل عِتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، وخصَّ بني إسماعيل بالذِّكر لأنَّهم أشرفُ العرب نَسباً، ومن حَمِد الله مائة، أي من قال: الحمد لله مائة مرّة كان له من الثواب مثل ثواب من تصدّق بمائة فرس مسرجةٍ ملجمةٍ، أي: عليها سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، ومن كبّر اللهَ مائة مرّة، أي قال: الله أكبر مائة مرّة كان له من الثواب مثلُ ثواب إنفاق مائة بدنةٍ مقلّدةٍ متقبّلةٍ، ومن هلّل مائة، أي قال: لا إله إلا الله مائة مرة فإنَّها تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتى به.
رابعاً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب، فقد ثبت في المسند، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبُه ولو كانت أكثر من زَبَد البحر"، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقرَّه الذهبي، وحسّنه الألباني[7].
والمراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي: الصغائر، لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر"[8]، فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة.
وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقط من ذنوب العبد كما تَساقط ورق هذه الشجرة"، وحسّنه الألباني[9].
خامساً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ غرس الجنة، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلامَ، وأخبِرهم أنَّ الجنةَ طيِّبةُ التربة، عذبةُ الماء، وأنَّها قيعان، غِراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[10]، وفي إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق، لكن للحديث شاهدان يتقوى بهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث عبد الله بن عمر.
والقيعان جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته، كذا في النهاية لابن الأثير[11]، والمقصود أنَّ الجنة ينمو غراسها سريعاً بهذه الكلمات كما ينمو غراس القيعان من الأرض ونبتها.
سادساً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده: روى الإمام أحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن عن عبد الله بن شداد: أنَّ نفرًا من بني عُذْرَة ثلاثةً أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يكفينيهم" قال طلحةُ: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدُهم فاستشهدَ، قال: ثم بَعَثَ بعثاً آخر، فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالثُ على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيرًا يليه، ورأيت الذي استُشهد أولَهم آخرَهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكرتَ من ذلك، ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يُعمّرُ في الإسلام يَكثُر تكبيرُه وتسبيحُه وتهليله وتحميده"[12].
وقد دلّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضل من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله عز وجل.
سابعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً، ففي المسند للإمام أحمد ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتب له عشرون حسنة، وحُطّت عنه عشرون سيّئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين مِن قِبَل نفسِهِ كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطّ عنه ثلاثون خطيئة"[13].
وقد زاد في ثواب الحمد عندما يقوله العبد مِن قِبَل نفسه عن الأربع؛ لأنَّ الحمد لا يقع غالباً إلا بعد سبب كأكلٍ أو شُربٍ، أو حدوث نعمة، فكأنَّه وقع في مقابلة ما أُسديَ إليه وقت الحمد، فإذا أنشأ العبد الحمد من قِبَل نفسه دون أن يدفعه لذلك تجدُّدُّ نعمةٍ زاد ثوابه.
ثامناً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له، روى الحاكم في المستدرك، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا جُنَّتَكم"، قلنا: يا رسول الله من عدو قد حضر! قال: "لا، بل جُنَّتُكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنَّهنّ يأتين يوم القيامة منجيات ومقدّمات، وهنّ الباقيات الصالحات". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححّه العلامة الألباني يرحمه الله[14].
وقد تضمّن هذا الحديث إضافة إلى ما تقدّم وصفَ هؤلاء الكلمات بأنَّهنَّ الباقيات الصالحات، وقد قال الله - تعالى -: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[15] والباقيات أي: التي يبقى ثوابُها، ويدوم جزاؤُها، وهذا خيرُ أمَلٍ يؤمِّله العبد وأفضل ثواب.
تاسعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنَّ، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم عن النعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، يَنعَطِفْن حول العرش لهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل، تذكر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له من يذكر به". قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وصحّحه الحاكم[16].
فأفاد هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة، وهي أنَّ هؤلاء الكلمات الأربع يَنعَطِفْن حول العرش أي: يَمِلن حوله، ولهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل؛ أي: صوتٌ يشبه صوتَ النحل يذكرن بقائلهنّ، وفي هذا أعظم حضٍّ على الذِّكر بهذه الألفاظ، ولهذا قال في الحديث: "ألا يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به".
عاشراً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان، روى النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وغيرهم عن أبي سلمى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بَخٍ بَخٍ، - وأشار بيده بخمس - ما أثقلهنّ في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولدُ الصالح يُتوفى للمرء المسلم فيحتسبُه"، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي[17]، وللحديث شاهد من حديث ثوبان رضي الله عنه، خرّجه البزار في مسنده، وقال: إسناده حسن[18].
وقوله في الحديث: "بَخٍ بَخٍ" هي كلمة تُقال عند الإعجاب بالشيء وبيان تفضيله.
حادي عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضولِ أموالهم". قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدكم صدقة". قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟" قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ"[19].
وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ثاني عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهنّ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يُحسنه، روى أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنِّي لا أستطيع أن أتعلّمَ القرآنَ، فعلِّمني شيئاً يُجزيني". قال: "تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فقال الأعرابي: هكذا - وقبض يديه - فقال: "هذا لله، فمَا لي؟" قال: "تقول: اللّهمّ اغفر لي وارْحمني وعافِني وارْزقني واهْدِني"، فأخذها الأعرابيُّ وقبض كفّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد مَلأَ يديه بالخير"[20].
قال المحدّث أبو الطيّب العظيم آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: سنده صحيح. وقال الألباني يرحمه الله: سنده حسن[21].
فهذه بعض الفضائل الواردة في السنة النبوية لهؤلاء الكلمات الأربع، وقد ورد لكلِّ كلمة منهن فضائلُ مخصوصةٌ سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، ومن يتأمل هذه الفضائل المتقدّمة يجد أنَّها عظيمةٌ جدًا، ودالّةٌ على عِظم قدرِ هؤلاء الكلمات، ورِفعة شأنهنّ وكثرة فوائدهنّ وعوائدهنّ على العبد المؤمن، ولعلّ السر في هذا الفضل العظيم - والله أعلم - ما ذُكر عن بعض أهل العلم أنَّ أسماء الله - تبارك وتعالى - كلَّها مندرجةٌ في هذه الكلمات الأربع، فسبحان الله يندرج تحته أسماءُ التنزيه كالقدّوس والسلام، والحمد لله مشتملة على إثبات أنواع الكمال لله - تبارك في أسمائه وصفاته -، والله أكبر فيها تكبير الله وتعظيمه، وأنَّه لا يُحصي أحدٌ الثناءَ عليه، ومن كان كذلك فـ(لا إله إلا هو) أي: لا معبود حق سواه[22].
فللّه ما أعظمَ هؤلاء الكلمات، وما أجلَّ شأنهنَّ، وما أكبرَ الخير المترتّب عليهنّ، فنسأل الله أن يوفقنا للمحافظة والمداومة عليهنّ، وأن يجعلنا من أهلهنّ الَّذين ألسنتهم رطبةٌ بذلك، إنَّه وليّ ذلك والقادر.
يتبع ....