العمل للدين واجب الجميع
الشيخ عبدالوهاب الطريري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله طيبة مباركة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله عند كل نعمة.
والحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
وأشهد أن نبينا محمد عبد ورسوله، أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبع سنته واهتدى بهداه.
أما هذه الكلمة فهي بعنوان (العمل للدين مسؤولية الجميع)
إنها القضية التي ينبغي أن لا نمل طرحها ولا نسأم تكرارها حتى تتجذر في القلوب وتتشبع بها النفوس، وتصبح حية في مدارك الناس حاضرة في واقعهم.
إنها قضية العمل للدين وأنها قضية كل مسلم حتى يصبح العمل للدين قضية ساخنة في حياة المسلمين، تواجهك في كل لفتة وفي كل فلته.
إنها قضية استنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها يوم نفرت كل أمة إلى رسالتها وعقيدتها.
إنها قضية إحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة.
إنها قضية تحريك الدماء في هذا الجسد الضخم من الملايين المملينة من المسلمين الجغرافيين الذين خبا لهيب الإيمان في حياتهم، فإذا هم كما وصفهم نبيهم (صلى الله عليه وسلم) غثاء كغثاء السيل.
إنها قضية جرد الحسابات لجهود شباب الصحوة الذين أشرقت بهم سماء الأمة بعد أن تكدرت سمائها بالقترة، فإذا بهم يتدفقون دفعات زاخة إلى مجالس الدعاة وحلَق العلم.
ثم نبحث عن جهودهم فإذا جهودهم لا يتناسب مع عددهم.
وعطائهم لا يتناسب مع هذا الجموع وقوة زخمها.
إنها قضية رفع مستوى العامة للإحساس بأن الأمة في أزمة وهي أزمة ضعف الإيمان.
نقف أيها الأحباب مع قضية العمل للدين وأتناولها في محاور خمس:
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة، وليس مسؤولية طائفة، بل هو مسؤولية ملقاة على كاهل كل مسلم.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
ثم أعود إلى هذه المحاور بشيء من التمثيل والتدليل.
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
هذه قضية كانت واضحة محسومة في عقيدة الجيل الأول، في عقيدة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم تلقوا هذا الدين غضا طريا من في محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
يوم كان أحدهم يبسط يده إلى اليد المباركة ليبايع محمدا (صلى الله عليه وسلم) على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يبيعه على غيرها، ثم يستشعر أن هذه البيعة قد ألبسته لباس الجندية ليعمل لهذا الدين.
وخذ هذا من خلال نماذج أعرضها عرضا سريعا:
قصة الطفيل بن عمر الدوسي رضي الله عنه حين جاء إلى مكة في أوليات الدين.
يوم كانت قريش تضرب حول هذه الدعوة سياجا شائكا من الحرب الإعلامية، والحرب الإعلامية تكتيك يمارس ضد الدعوة إلى دين الله ورسالات الله من القديم وإلى اليوم.
ونحن اليوم نرى نماذج للحرب الإعلامية القذرة الدنسة في الصحافة ضد الدعوة التي تدعو إلى تحكيم شريعة الله، فهي ترجم بالأصولية.
ترجم بالدعوة إلى قلب نظام الحكم في بلاد قلب فيها نظام الحكم فيها مرارا.
ترجم بالانتهازية، ترجم بأوصاف قذرة دنسة وأنواع من التهم المعلبة المستوردة.
هذا النوع من المواجهة كانت تسلكه قريشا قبلا، فليس غريبا على الداعين إلى الله.
كانت قريش تتلقى كل وافد إلى مكة، فتقول له:
( إنا نحذرك غلاما بني عبد المطلب، إنه يقول كلاما يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، أحذر ومن أنذر فقد أعذر).
تلقت هذه الدعاية الطفيل بن عمر فما زال به الجهاز الإعلامي القرشي الكافر حتى عمد القطن فوضعه في أذنيه، ودخل الحرم.
ويشاء الله أن ينفذ كلمات رسوله على رغم أنف قريش وعلى رغم القطن الموضوع في أذني الطفيل. فيسمعُ قراءةَ الرسولِ(صلى الله عليه وسلم) وهو يترسلُ بكلام الله الذي فلق سبع سماواتٍ حتى تعطرت به أنحاءُ مكة، فسمع كلاما لم يسمع مثله قبل.
فأقبل على نفسه يراجعها ويقول عجبا إنني رجل عاقل لبيب فكيف أعير عقلي غيري؟
آلا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه فإن كان خيرا كنت أحق به، وإلا فإني أعرف كلام العرب شعرها ونثرها وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال:
إني قد سمعتُ قولَ قومَك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَ ما عندَك، فعرض عليه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) الإسلام وعلَمهُ القرآن، فأمن مكانه.
بإمكانِك أيها الأخُ المبارك أن تتسأل كم شُرع من شرائع الإسلام حين إذٍ، إنه التوحيدُ وشرائعُِ قليلةَ.
أسلم الطفيلُ مكانه ثم شعر بهذه المسؤولية للتو، فقال:
يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنى فأرسلني إليهم.
سبحان الله إن الرجلَ لم يتلقى الإسلام إلا الآن، ولكنَه شعرَ للتو أن هذه البيعةَ على الدخولِ في الدين تستوجبُ العمل له، فإذا به يتحولُ في مكانه داعيةٍ ونذيرٍ إلى قومه.
أرسلني إليهم إنهم قد كفروا بالله وفشا فيهم الزنى.
فأرسلَه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب إليهم خرجت الآية وإذا هي نور في وجهه، فإذا وجهه يضيء كأن في وجهه سراج، فقال يا رب يراها قومي فيقولون مُثلة، اللهم أجعلها في سوطي، فانتقلت إلى سوطه فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل.
وعرض الطفيل الإسلام على قومه فأسلم بعض قرابته واستعصت عليه عشيرته.
فماذا فعل ؟
هل شعر بأن هذا أمر طبيعي لا يستثير وجدانه ولا يحرك وجدانه؟
كلا، فقد ثارت في نفسه الغيرة على الدين فعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشكو إليه الحال ويقول له بحرقة:
يا رسول الله إن دوسا قد كفرت بالله فأدعو الله عليهم.
فرفع النبي (صلى الله عليه وسلم) يديه الطاهرتين المباركتين التي ما دعت بإثم ولا قطيعة رحم وقال:
اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً.
والشاهدُ آيها المبارك من هذه القصةُ استشعارُ الطفيلِ رضي اللهُ عنه بمجردِ أن دخلَ في الدين مسئولية الدعوة إليه.
فمنذ كم دخلنا في هذا الدين وما مدى استشعارنا لهذا الأمر؟
سؤال ندع الإجابة عليه إلى أعمالنا وهواجس قلوبنا.
أبو ذر رضي الله عنه جندب إبن جناده أعرابي جاء من قبلة غفار ينشد الهدى مظنته، أبو ذر الذي إذا أخرج بطاقته الشخصية ليعرف بنفسه يقول: أبو ذر جندب إبن جناده ربع الإسلام.
كيف يكون أبو ذر ربع الإسلام؟
يعني أنه كان في يوم من الأيام ربع العالم الإسلام.
ليس على ظهر الأرض في علمه مسلم إلا أربعة نفر هو رابعهم.
هذا الذي أسلم رابع أربعة أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه البداية المبكرة للدعوة فأخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يغادر مكة لأن وجوده بين ظهراني المسلمبن في مكة وهو غفاري ليس بقرشي يشكل عبأ على الدعوة، والدعوة لا زالت في بدايتها، فليلحق بقومه.
فماذا فعل؟ قال والله لا أخرج من مكة حتى أصرخ بها بين أظهرهم.
لقد كانت قريش تبني حاجزا ضخما من الصمت يحيط بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فإذا بأبي ذر الذي لم يحمل من الدين إلا التوحيد يستشعر أنه يتحمل مسؤولية تقديم عمل ما للدين، وليكن هذا العمل تحطيم حاجز الصمت الذي تبنيه قريش سياجا على دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فيصرخ بالتوحيد بين ظهراني قريش، وفعلا كان ذلك:
فإذا به يغدو إلى الحرم وقريش في نواديها فيه فيصرخ وهو الرجل الأيد الشديد الجهوري الصوت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ويدوي ندائه في مكة فتثور إليه قريش من أنديتها، تقع عليه، وقع عليه هذا الجمع كله.
فيثور إليهم العباس رضي الله عنه وهو رجل موصول العاطفة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه:
فخاطب في قريش حسها التجاري، فقريش قوم تجار فقال:
كيف تقعون برجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة ؟
والله لأن مسستموه بسوء ليقطعون عليكم الطريق إلى الشام. هنا توقفوا.
فقام أبو ذر بعد أن راء الهلكة بأم عينيه.
هل قام وهو يقول الحمد الله الذي أنجاني، أين راحلتي إلى أرض قومي؟ كلا.
قال لا أذهب حتى أصرخ بها غدا.
وفعلا يعود من الغد ويصرخ بها، ويثورون إليه كما ثاروا بالأمس.
ويثور العباس فيخلصه - وكان إذ ذات مشركا - وبالأسلوب ذاته " إنه رجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة فدعو الرجل يلحق بقومه.
ويخلّص أبو ذر، فهل قال لقد نجوت هذه المرة يوم خلصني العباس، وسألحق بقومي وقد أديت ما علي، والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين؟ نعم حمد الله ولكن بالتزام أن يعود ثالثة.
يقول البناءون وجه واحد من البوية لا يكفي.
عاد أبو ذر ثالثا وليس على يقين أن العباس سيخلصه المرة الأخرى.
ولكنه على يقين أنه بعمله ذلك يقدم عملا إيجابيا للدعوة.
ولتنشق أذان قريش بالدعوة التي تحاصرها بالصمت.
وليعرف الناس سماع الشهادة، ونداء التوحيد، والخبر برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم).
فإذا به ينادي ثالثا فيثورون إليه ويقعون به فيخلصه العباس.
فيمم شطر قومه غفار، فماذا فعل عندهم؟
لقد بدأ بأسرته وقرابته فدعا أمه ودعا أخاه ثم هب إلى قبيلته يدعوها فاسلم نصفها.
أما النصف الأخر فقالوا:
أليس صاحبك (يعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) قد أمرك أن تذهب فإذا سمعت بأنه قد ظهر أن تلحق به؟
النبي الآن ثالث ثالثة ويقول لأبي ذر فإذا علمت أني قد ظهرت فالحق بي، اليقين.
قالوا أليس وعدك أنه إذا ظهر تلحق به؟ قال نعم.
قالوا نحن إذا ظهر آمنا لحقنا به، أما الآن فننتظر.
فلما ظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) آمنت غفار كلها فقالت بنو عمها قبيلة أسلم:
ليس بنا عما رغب به بنو عمنا غنى فأسلموا أيضا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
هذا الإنجاز تحقق على يد رجل اعتقد أنه ربع الإسلام.
ربع العالم الإسلامي في وقته لم يحمل من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا التوحيد، ولكن حمل مع التوحيد الاستشعار للمسؤولية اتجاه هذه الرسالة، واتجاه هذه العقيدة وأن دخوله لهذا الدين يستوجب العمل له.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محددا بزمان ولا مكان وإنما هو وظيفة العمر كلها.
فإذا كان الانتماء للدين يستلزم العمل له، فالعمل للدين وظيفة العمر.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله ورسوله والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:
( إني دعوة قومي ليلا ونهارا) ثم يقول:
(ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا).
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، كل ذلك سخر للرسالة آلف سنة إلا خمسين عاما. الحياة كلها دعوة، ليل ونهار، علن وإسرار.
ثم أرحل مع نبي من أنبياء الله ورسله يوسف عليه السلام:
يوسف الذي القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن.
أدخل السجل يرسف في قيوده.
يعاني في السجن لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، ومضاضة ظُلم ذوي القربى.
يعاني كل هذه الآلام ويكابدها في ظلمات السجن وثقل القيد، ولكن مع هذا كله، مع هذه المعانات كلها لا ينسى أبدا دعوته وقضيته ورسالته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة.
يتبين لنا فيها براعة الداعية وحسن تأتيه فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:
( رأيتني أعصر خمرا ).
( رأيتني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه).
( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ). فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
أولاً يكرس حسن ظنهما به فيقول:
( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه وهي رسالة الله وعقيدة التوحيد فيقول:
( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
أسماء سميتموها ليس لها حقائق، حتى إذا كرس عقيدته وبين أنه بريء هو وأبوه وجده مما هم عليه وأنه أتبع الرسالة الخالصة الموحدة لله.
ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:
( أما أحدكما فيسقي ربه خمرا،وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
قضي بعد ماذا ؟
بعد أن ألقى عليهم محاضرة مملوءة بالأدلة والبراهين والتثبيت في التوحيد.
سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، ألم السجن، ألم الغربة، قهر الظلم، لوعة البعاد ومع ذلك تبقى قضية نبوته ورسالته وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.
بل إن أنبياء الله ورسله وكذا السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات وأشد الكربات كربا، وآلمها ألما، وأمضّها وأوحشها.
إنها أشد ساعة تمر بالإنسان منذ ولادته إلى مغادرته إنها ساعة الموت.
وهل ساعة أشد منها؟ وهل ساعة أعظم هولا ؟ وأكرب كربا ؟ وآلم ألما من هذه الساعة؟
ستفضي بك الساعةُ في بعض مرها……..إلى ساعة لا ساعة لك بعدها
هذه الساعة الموحشة المؤلمة الشديدة لا تنسي أنبياء الله ورسله دعوتهم وقضيتهم ورسالتهم لأن الدعوة وظيفة العمر كله، حتى في آخر لحظات العمر.
تبقى الدعوة والرسالة والعمل للدين حية لا تموت وهم يموتون.
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته.
حاله وهو يموت كيف مات من كان عنده؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا:
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) وبنوه حولَه فماذا فعل؟ وماذا قال ؟
( إذ قال لبنيه ) ماذا قال لهم؟
الأموالُ كيف تجمعونها ؟
القصورُ كيف تبنونها ؟
الثروات كيف تكدسونها أم التركة كيف توزعونها ؟
أم الزروع كيف تزرعونها ؟
كلا ليس شيء من ذلك ولكن هم الدين وقضية التوحيد:
( ما تعبدون من بعدي ).
هذا الهم الذي بقي يقضا في قلبه وهو يودع الدنيا، ( ما تعبدون من بعدي ).
وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومةِ أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم.
ولكن الهمُ اضخم في القلب ( ما تعبدون من بعدي ) ؟.
ويجيء الجواب الذي يقر عينه:
( نعبدُ إلهك والاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
ثم انظر إلى حالِ نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا (صلى الله عليه وسلم) :
الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
بعد هذه المسيرةِ الحافلةِ في بلاغ رسالات الله، وبعد أن اعذر إلى الأمة بأنه قد بلغها دينها وأدا إليها الأمانة التي أتمن عليها، تهي للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
فإذا به في أخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية وهو متغطي بها (صلى الله عليه وسلم)، ويقول ابن مسعود :
( يا رسول الله إنك لتوعك كما يوعك رجلان منا، قال نعم ذلك أن لي أجر أثنين).
وحتى كان الماء يحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقرب يصب على بدنه ليطفئ استعار الحمى في بدنه.
بدنُ استعرت فيه الحمى وأنهكَه المرض، وانهزمت فيه العافية.
ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة وهم الرسالةِ والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.
ولا يخبو في البدن الذي أنهكه المرض، فإذا به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يذكرُ هم أمته ورسالتِه في أخرِ يومٍ يعيشُه على الدنيا.
إذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرجَ إلى الأمةِ يومَ الاثنين، اليومَ الذي مات في ضحوته.
إن شئت فقل في أخرِ ساعاتِ حياته، يخرج يتفقدُ أمتَهُ!
أين تفقدها في الأسواق؟ كلا
تفقدها وهي تصلي لله في أخرِ فرضٍ تصليه أمةُ محمد (صلى الله عليه وسلم) ونبيُها حيُ على الأرض.
يتحاملُ (صلى الله عليه وسلم) على الجسدِ الواهن الذي انهزمت فيها العافية وأنهكه المرض.
يتحامل عليه لينظر أمته وهي تصلي نظرةَ وداعٍ يتفقد فيها دينها وصلاتها واعظم أركان الدين بعد التوحيد.
خرج (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين وهم يصلون خلف ذلك الرجلِ الطيبِ المبارك الخاشع أبي بكرٍ الصديق وهو يقف في موقف الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) يقطع القرآن ببكائه.
والصحابةُ يخيمُ عليهم جو من الحزنُ والوجوم لغيابِ رسولِ (صلى الله عليه وسلم) خمسة أيام عن محرابه الذي طالما وقف فيه يقطع آيات القرآن.
فما فجعَهم وهم وقوف إلا وسترُ حجرةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يرفع و إذا بالواقف محمدُ (صلى الله عليه وسلم) ، الذي غاب عنهم خمسةَ أيام تحت وطئة المرض، إذا به واقفُ يتحاملُ عل جسدِ منهك بالمرض.
ينظر إليهم فماذا رأى، رأى أصحابه وقوفاً كما علمهَم، خشوعاً كما أدبَهم، مطرقين خشوعا لأدب القرآن، وموقف الصلاة، فرأى (صلى الله عليه وسلم)، المنظر الذي ابتهج به قلبُه وقرت عينُه، واطمأنَ إلى أن رسالَته في أيدٍ أمينةٍِ و أن أمتَه واقفةُ على الصراطِ الذي رسَمهُ لها.
فإذا بالوجه الشاحبِ من المرض يطفحُ عليه البشر والسرور، فيتهللُ بإشراقةِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ما رأى الصحابةُ منظراً كان أعجبَ إليهم منها، حتى قال أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه:
(ما رأينا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجهِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، حينَ نظر إلينا يضحك كأن وجهَهُ ورقةُ مُصحف).
(صلى الله عليه وسلم) إنه الهمُ للدين والتفاعلُ مع الدين يطفحُ فرحاً وسروراً على وجهٍ أنهكه المرضُ وشاحب بالألم.
وكاد الصحابة أن يفتتنوا بهذا المنظر، فإذا بالصفوف تنشق لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليتقدم إلى محرابه الذي طالما وقف فيه، فإذا به يشير إليهم أن أتموا صلاتكم.
ويرخي ستر حجرته فكانت أخرَُ رأية رأها الصحابةُ لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم).
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) إذ كنا نقول أنه حملَ الأمةِ في أخرِ ساعاتِ حياته.
فإننا نقولُ الآن إنه حملُ هم الأمة في أخرِ لحظاتِ حياته.
إذا به (صلى الله عليه وسلم) ينفقُ أخرَ الأنفاسِ وأخرَ اللحظاتِ وأخر الثواني نصحا للأمة ونداء للأمة لا ينسى هم أمته وقضيته ورسالته.
نزل به الموت فاشتد به الكرب حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
( ما تمنيت يسر الموت لأحد بعد ما رأيت من حال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) لشدة وقع الموت عليه.
كان يدخل يده في الإناء الذي فيه الموت ثم يمسح وجهه ويقول:
( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على هذه السكرات ).
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته ولا عن عقيدته ولا رسالته ولا أمته فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ وترويه الدنيا في أخر لحظاتِ عمره، ينادينا نداءً شق حُجبَ الزمن حتى أسمعنا:
( الله اللهَ الصلاة الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم ) حتى حشرجَ بها صدرُه وغرر بها حلقُه واحتبسَت بها نفسه. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات وآخر أنفاس الحياة.
هذا شأن أنبياء الله ورسله وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر، فقهه وثقفه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوما منها مهدرا ليس فيها عمل للدين.
وخذ مثالا واحد على ذلك جعفر أبن أبي طالب أبن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
قضي نحوا من إحدى عشرة سنةً في المنفى في دار البغضاء البعداء في الحبشة.
لم يأخذ أثنائها إجازة عرضية ولا مرضية ولا اضطرارية ، بقيَ إحدى عشرة سنةً متواصلةً يعاني ألم الغربة ولوعة البعاد كلُ ذلك في ذات الله حتى إذا حانت الفرصةُ عاد في السنةِ السابعةِ للهجرة.
عاد في السنة التي فتح فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر، وما يدريك ما فتح خيبر ؟
فتح حيبر كان بداية غنى للمسلمين، ما عرفوا الشبع إلا عندما فتحت خيبر.
فتحوا خيبر فكانت عزا للإسلام وفتحا للمسلمين، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يصف فرحة لقائه بجعفر فيقول:
يتبع ....