أيّها المسلمون، لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، و أبناء الأمة و فتيانها دفتر مفتوح وسجلّ أبيض، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها، ((كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))(1)[1].
وعقولُ أبناء الأمة هدفٌ لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شرورهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم في مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات، ولا ينفعَ بإذن الله إلا التحصُّن بعلم الشريعة، فهو يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
ومِن تعظيم الشريعة والدّين تعظيمُ العلماء، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء)) رواه أحمد(2)[2]. حقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم، وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له". سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب بإذن الله من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء"(4)[4].
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطِ في طلب العِلم وإعجابٍ بالرّأي وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد تعوَّذ من الفتن(5)[5]، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها(6)[6]، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الفتن: ((ومن استشرف إليها ـ أي : تطلَّع إليها ـ أخذته)) رواه البخاري.
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما ممَّا يورث القلبَ الفساد،
والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه"(8)[8].
والتقصيرُ في أداء الواجبات والوقوع في المحرّمات وتعلق الفتى بالفضائيّات وتسوقه وراءَ المنكرات بوَّابةُ فسادٍ للأخلاق و السلوك وتفتح الطريق للأفكار المنحرفة، والقلبُ إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقُل عليه أداء المعروف، وسهُل عليه قبول المنكَر.
ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ التوجيهات الدينيّة والتوسُّع فيها والبسطَ في شرحها وتسهيل فهومِها للناشئة، ، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
و بالمناهج المرتكزة على الدّين والعمل بالعلم تصير معها البلاد بتوفيق الله تزخَر بالعلماء الذين يفهَمون أحكامَ الشريعة، ويُرجَع إليهم في الفتوى والمسألة، ويكتسبون الثقةَ والتبجيلَ في التوجيه والإرشاد والدّعوة، وبفضلٍ من الله يخرج من أحضان العلماء الوزراء الناصحون، و المستشارون المؤتمَنون، و الأدباء المثقَّفون، و الإعلاميّون المؤتمنون، و الأطبَّاء الحاذقون، ويتألّق الاقتصاديّون العارفون، ويكون من أبنائنا مَن يسهَم في بناء وتنميَة الحضارة ومقوّمات الحياة في المجتمعات،.
أيّها المسلمون، والثناءُ على الأبناء والصغار وتشجيعهم واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً لهم لئلا يحتضنهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله أمرٌ ينبغي تشجيعه و المساهمة فيه بالمال و الجهد و الأوقات، ولقد صان الله بها كثيرًا من الشباب عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم منحت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من وصول الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحرمة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم عقول الشباب فهي تعمل على التشكك في الإيمان و تشجع علي الجريمة و ارتكاب المحرمات و الموبقات ،و تصور تعاليم الإسلام و آدابه على أنها تقييد للحريات و حرمان من الملذات فيصر المنكر معروفا و المعروف منكرا، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون، عدم التواصل بين الوالد والولد عامِل من عوامل امتناع الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في داخله إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي))(9)[9]، وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره(10)[10].
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير يصرفك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً [الفرقان:27، 28]. فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
وللمرأة دورٌ مكين في الرعاية والتوجيه، وإذا تخلَّت المرأة في دارها عن مسؤوليّتها وأخْلَت مسكنَها من نفسِها بكثرة خروجِها من منزِلها لم يجِد الأبناء حنانَ الأمومة وعطفَ الحانيَة، ، فيفقِدون عطفَ الوالدَة ورأفة المُشفِقة، فلا يمنَعهم ذلك للتوجّه إلى من يتلقَّفهم بمخدوع الحديثِ وأماني المستقبل، والإسلامُ ألقى على الأمِّ مسؤولية كبيرةً مشرِّفة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((والزوجة راعيةٌ ومسؤولة في بيت زوجها)).
و مِن أحضان المرأة تخرَّج العلماء وبرز النّبلاء، ولا أعظم تكريمًا للمرأة ولا أنبلَ تبجيلاً لمكانتِها من إسداء مسؤولية العقول إليها في دارها، فواجبٌ عليها القيام بأعباء تكاليفها لئلاّ تذرف الدمعَ على أولادِها، وعليها عدمُ الإصغاء إلى أبواقٍ تدعوها إلى الخروج من مملكتِها وإهمال أولادِها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [الولد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي لابن عبّاس وهو غلام: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك))(12)[1]. وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك))(13)[2].
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعادُ ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بالدين، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
و رجالُ التربية والتعليم والمربون يقع عليهم العبءُ الأكبر في توجيه الأجيال وتسليحها بالإيمان وتحصينها من الفتن، وتترفع الأمة بالتعليم أن يكون وسيلةً لرفع المستوى المادي مع إهمال مقاصده النبيلة وغاياته التربوية، فهذا الطفل يدخل إلى ساحات التعليم أشبه بوعاء فارغ، وخلالَ الأيام والسنوات تتدفّق في هذا الوعاء الممارسات والسلوكيات والمناهج التي يتلقاها في محاضن التعليم لتشكّل أخلاقَه وترسمَ منهج فكره وطريقةَ حياته، وبهذا يعمل التعليم على تجسيد هوية المجتمع والأمة، وإبراز قيَمها وثوابتها.
ومع تزاحم النظريات التربوية الحديثة ننسى نحن المسلمين أحياناً بعض البدهيات، أو قد نغفل عنها مع مرور الزمن، فمهمّة التعليم الأساسية تربيةُ النشء على قيم الإسلام والمبادئ التي جاء بها الرسول ليكون مسلما في الاعتقاد والمشاعر والسلوك، خاضعاً في كل جوانب حياته للإسلام،
إن الأمم ـ عباد الله ـ لا تتقدَّم بحشو المعلومات، إنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس القيم وبناء المبادئ، لتجعل منها واقعاً عملياً، لا محفوظات تلوكها الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وأثر يُتحلَّى بها في السلوك.
إن مهمة التعليم قبل إعطاء المعلومات تكوينُ هذا القلب الذي يستخدم المعومات للخير لا للشر، ولنفع البشرية لا لضررها، ولا سبيل لذلك إلا بالتربية، تربيةً ترسِّخ العقيدةَ وتغرسها في أعماق القلب، حتى لا تتصدّع بشبهة، ولا تنحني لشهوة، تربيةً إيمانية بعيدةً عن اللهو والعبث والمجون، أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفس، تربيةً تجعل النفس تتعلق بمعالي الأمور وتترفَّع عن سفسافها، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا لله، ولا توالي إلا فيه، ولا تعادي إلا لأجله، فحاجتنا إلى القلوب العامرة بالإيمان ليست دون حاجتنا إلى الرؤوس المشحونة بالمعلومات، كيلا يكون النشء شيطاناً يرمي بشرره وينشر الدمار والبؤسَ على العالمين، وكيلا تجرفه موجات إدمان المخدرات والأفكار المنحرفة والعقائد الضالة،
واعلم ـ أيّها الابن ـ أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِي سعادةَ الدنيا والآخرة.