3 - حافظته القويَّة الواعيَة:
لقد وهَب الله - سبحانه - آل تيميَّة ذاكرةً واعِيَةً، لكن خرقت العادة مع شيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة رحمه الله؛ حيث عُرِفَ عنه: الحفظ وبطء النسيان، و:"إنَّ المكانة الاجتِهاديَّة في العلوم الإسلاميَّة التي أحرَزَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في عصره، وإنَّ التأثير العميق الذي خلَّفَه على أهل زمانه؛ لإمامته في التفسير والحديث معًا، وتبحُّره ونبوغه في العلوم - إنما كان الفضل الأكبر في ذلك يَرجِع إلى ذاكرته النادرة، وذكائه المفرِط، وكلُّ ذلك نعمةٌ أكرَمَه الله بها، وموهبةٌ اختصَّه بها"[31].
وهذه الذاكرة الحديديَّة قد عُرِف بها منذ صِباه، و:"كانت ذاكرته حديثَ زملائِه من الفتيان؛ بل تجاوَز صِيتُه دائرةَ الصِّبيان إلى دائرةِ الرِّجال، وتسامعت دمشق وما حولها بذكائه ونبوغه"[32]، يوضح هذا:"أنَّ بعض مشايخ حلب قَدِم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيٍّ يقال له: أحمد ابن تيميَّة، وأنَّه كثير الحفظ، وقد جئتُ قاصدًا لعلِّي أراه، فقال له خيَّاط: هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمرُّ ذاهبًا إلى الكتَّاب، فلمَّا مرَّ قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ وأخَذ منه اللوح، وكتَب من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن نظر فيه مرَّة بعد كتابته إيَّاه، ثم دفَعَه إليه وقال: أسمِعْه عليَّ، فقرَأَه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتَب عدَّة أسانيد انتخَبَها، فنَظَر فيه كما فعَل أوَّل مرَّة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إنْ عاش هذا الصبيُّ: ليكوننَّ له شأنٌ عظيم؛ فإنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، فكان كما قال"[33].
وقد علَّق أحد العُلَماء على هذه القصة بقوله: "وتبدو القصة عارية عن المبالغة، بعيدة عن الغلو، فإنَّه ممَّا تضافرت به الأخبار عن الإمام مالك[34]: أنَّه كان يستَمِع من ابن شهاب[35] بضعة وثلاثين حديثًا، ثم يتلوها في الجلسة، ومنها حديث السقيفة، وإن كان ثمَّة فرق بين العصرين؛ فعصر مالك كان عصر حفظ، الاعتِماد فيه على الذاكرة لا على الكتب، ومن شأن ذلك أن يقوِّي الحافظة ويرهفها؛ لأنَّ من المقرَّرات المستمدَّة من الاستِقراء: أنَّ العضو الذي يَكثُر عملُه يقوَى ويشتدُّ، أمَّا عصر ابن تيميَّة فكان عصر التدوين والتسطير والكتابة، وليس من شأنه أن يقوِّي الحافظة؛ للاعتِماد على السطور دون ما في الصدور، ومهما يكن، فمن الثابت أنَّ ابن تيميَّة - رضي الله عنه - قد آتاه الله ذاكرة واعِيَة منذ صِباه... ويظهر أن قوَّة الذاكرة قد ورثها ابن تيميَّة عن أسرته، (فجدُّه مشهورٌ بقوَّة الذاكرة وسرعة البديهة)، كما أنَّ أباه قد كان يمتاز بأنَّه يُلقِي دروسَه في الجامع الأكبر بدمشق غير مُعتَمِد على كتاب"[36].
وهذه الذاكرة المتوقِّدة قد شَهِدَ له بها المُخالِف قبل الموافِق، وهذا أمرٌ معروف ومشهور في حياته منذ صِباه حتى موته، فقوَّة الذاكرة وحدَّتها تميِّز العالِم العبقري عن غيره من العلماء؛ إذ إنَّه يحتاج إلى أدلَّة ونُقُول، كما يحتاج إلى سرعة استحضار للآيات، وانتِزاع الأحكام من متون الحديث باختِلاف رواياته، فضلاً عن أقوال الأئمَّة.
وهذه الذاكرة التي وُصِف بها الإمام ابن تيميَّة، تؤكِّدها المُناظَرات التي حدَثَتْ له مع كِبار علماء عصره، حتى عجبوا من قوَّة حفظه وسرعة استِحضاره للعلوم، إضافةً إلى ذلك العلماء الذين أرَّخُوا حياته ذكَروا أنَّه قلَّ أنْ سمع شيئًا إلاَّ حَفِظَه، مع قوَّة الإدراك، وبطء النسيان[37]؛ بل إنَّه:"كان يمرُّ بالكِتاب مطالعة مرَّة، فينتقش في ذهنه، وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه"[38].
والبديهة الحاضرة والذاكرة القويَّة من أقوى الحجج التي تُبهِر الخصوم، وكان إذا أراد بدء الدرس، فبعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم - "يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، فنون، (وفنون ونقول) واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، واستِشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يَجرِي كما يجري السَّيل، ويفيض كما يفيض البحر"[39].
وهذا يدلُّ على مدَى استِحضاره للعلوم، فيُخرِجها منظومةً مُتَراصَّة، مع إتقانٍ في النقل كأنما ينظر إلى كتاب، "ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيميَّة يتهيَّبون لقاءه، ومَن لا يعرفها فيه ويغترُّ بحجته إذا لقيه، كان عبرة المعتَبِرين"[40].
وهكذا يُسخِّر الله - سبحانه - لدينه مَن يشاء، ويهب لِمَن يشاء من عباده صفاتٍ لنصرة الدين، وليكونوا عبرة للمُعتَبِر.
[size=24]4 - عمق تأمُّلِه:
إنَّ مؤلَّفات شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله العديدة المتنوِّعة: خيرُ دليلٍ يُرشِد إلى عمق تأمُّله؛ فهو: رافع راية العلماء، وحامل علمهم، وناقلُه بعينٍ فاحصة بصيرة، فهو ليس مجرَّد ناقِل للعلوم؛ بل إنَّه خبيرٌ بما يقرَأ، حريصٌ على نشر ذلك التُّراث الزاخِر بين أفراد الأمَّة، وممَّا يدلُّ على عمق تأمُّله للعلوم: أنَّه ينقل المسائل الكِبار، والتي اختَلَف فيها العلماء، فيُورِد أدلَّة هؤلاء وهؤلاء، ثم يرجِّح ويُوازِن بينهما بإنصافٍ كما تقتَضِيه الصناعة العلميَّة، وهو قد اجتَهَد في كثيرٍ من المسائل في شتَّى الموضوعات، وكان له فيها القدح المُعلَّى؛ بل قد وصَل إلى سُدَّة الأمر فيها، فالقارئ لكُتُبه: يجد هناك أصولاً وقواعدَ وضَعَها لضبْط بعض المسائل، كما يجد هناك اختيارات له توصَّل إليها دون تقليدٍ لأحد؛ بل بما عنده من علم، فمنها ما وافَق بعض الأئمَّة، ومنها: ما وافَق صحابةً أو تابعين رضي الله عنهم، كما أنَّ منهجيَّته في تَآلِيفه وتنوُّع الأجوبة والرسائل والوسائط الدعويَّة: خيرُ دليلٍ على سَعَةِ علمه، وهذه الأمور وغيرها مُتناثِرة في كتبه وكتب مَن ينقل عنه تَناثُرَ الدرِّ، ومن الأمور الدالَّة على بُعْدِ نظَرِه وعُمْقِ تفكيره: أنَّه لا يأتيه مُبطِلٌ بأدلَّة يُرِيد بها إثباتَ باطِلِه، إلا ردَّ عليه من نفس أدلَّته، وجعَلَها حُجَّة عليه، كما حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله بقوله: "وقال لي: أنا ألتَزِم أنَّه لا يحتجُّ مُبطِلٌ بآية أوحديث صحيح على باطله، إلاَّ وفي ذلك الدليلِ: ما يدلُّ على نقيضِ قوله"[41].
ومن خِلال كلماته هذه تظهَر لنا:"قوَّته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها"[42].
ومن الأمور التي اجتَهَد فيها وأظهَرَها: فطرُ الجنود في رمضان عند مُلاقاة العدوِّ؛ حيث أمَر المسلمين المجاهدين بالفِطْرِ في رمضان لقِتال العدو، وأفطَرَ هو بنفسه، وأخَذ يمرُّ بين الصُّفوف ليَراه الجنود، وقال: "هذا فطرٌ للتقَوِّي على جِهاد العدو..."، وقال:" والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهم وهم صِيامٌ لم يمكنهم النِّكاية فيهم، وربما أضعَفَهم الصومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضة الإسلام..."، ثم قال:" وهل يشكُّ فقيهٌ: أنَّ الفطر ها هنا أَوْلَى من فطر المسافر؟! "[43].
وممَّا يدلُّ على مدى عمق فِكرِه اللغوي:" أنَّه يربط بين الأسماء والمسمَّيات، فإذا ورد عليه لفظٌ: أخَذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفيَّة تركيبه"، حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله[44].
[/size]
5[size=24] - حضور بديهته:
وهي كغيرها: هبَةٌ من الله - عز وجل - يُعطِيها مَن يشاء، وحضور البديهة: دليلٌ على حِدَّة الذكاء مع قوَّة الذاكرة، وحسن التصرُّف في أحْلَك الظُّروف وأحرجها، وهي: دليلُ الفصاحة وحسن البيان مع الإيجاز دون كلفة؛ بل تَخرُج من قائلها تلقائيًّا دون سابِق إعداد، وقد أُوتِي شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله منها حظًّا وافرًا، وبَدَأت تظهَر هذه النَّجابة منذ صغره؛ حيث أسفَرَتْ عن حضور بديهته، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله: "حكى لي عنه الشيخُ شمس الدين ابن قيِّم الجوزيَّة قال: كان صغيرًا عند بني المنجا، فبحَث معهم، فادَّعوا شيئًا أنكَرَه، فأحضَرُوا النقلَ، فلمَّا وقَف عليه ألقَى المجلَّد من يديه غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلا جَرِيء؛ ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم!، فقال سريعًا: أيهما خيرٌ: أنا أو موسى؟، فقالوا: موسى، فقال: أيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي كان فيها العشر كلمات؟، قالوا: الألواح، فقال: إنَّ موسى لمَّا غضب ألقى الألواح من يده، أو كما قال"[45].
"وحُكِي أنه كان قد شكا له إنسانٌ من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه: جبروتٌ وأخذُ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلمَّا دخَل إليه الشيخُ وتكلَّم معه في ذلك، قال: أنا الذي كنتُ أريد أن أَجِيء إليك؛ لأنَّك رجل عالم زاهد، يعني: يستهزئ به (متهكمًا)، فقال له شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قطلو بك، لا تعمل عليَّ دركواناتك (حيلك وألاعيبك)، موسى كان خيرًا مِنِّي، وفرعون كان شرًّا منك، وكان موسى كلَّ يوم يجيء إلى باب فرعون مرَّات، ويعرض عليه الإيمان"[46].
فسرعة بديهته قد عُرِف بها منذ صغره، ولازمَتْه حتى نهاية حياته، وقد ساعدت هذه البديهة السريعة في انسِياب مؤلَّفاته وتأصيل كلامه، وممَّا يَشهَد لذلك أنَّه:"سُئِل يومًا عن الحديث:" لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"[47]، فلم يزل يُورِد فيه وعليه، حتى بلغ كلامه فيه مجلدًا كبيرًا"[48]، واسم هذا المجلد: "إقامة الدليل على بطلان التحليل"، وهو: كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، وممَّا يدلُّ على سرعة بديهته الكتابيَّة، أنَّه:" لمَّا أُخِذ وسُجِن وحِيلَ بينه وبين كتبه، صنَّف عِدَّة كتب - صغارًا وكبارًا - وذكَر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وأسماء المحدِّثين والمؤلِّفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيءٍ من ذلك إلى ناقِليه وقائِليه بأسمائهم، وذكَر أسماء الكتب التي ذُكِر فيها، وأي موضع هو فيها، كلُّ ذلك بديهةً من حفظه؛ لأنَّه لم يكن عنده حينئذٍ كتابٌ يُطالِعه، ونقَّبت واختبرت واعتَبرت، فلم يوجد فيها - بحمد الله - خللٌ ولا تغيُّر"[49].
هذا، إضافة إلى:" ما وهَبَه الله - تعالى - ومنَحَه به من استِنباط المعاني من الألفاظ النبويَّة والأخبار المرويَّة، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتَّب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيه وما أُرِيد به، أُعجِب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويُدهِشه ما سمعه أو وقف عليه منه"[50].
وقد عُمِلت[51] قصيدة من ثمانية أبيات على لسان ذِمِّيٍّ في إنكار القدر:امتِحانًا لعلماء العصر، وهي[52]:
[/size]
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ *** تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةِ
إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ *** وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى *** دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا *** فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا *** فَرَبِّيَ لاَ يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي
فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي *** فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي
إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً *** فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ
وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ *** فَبِاللهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي
"فلمَّا وقَف عليها شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فكَّر لحظة يسيرة وثنَى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه بديهةً، وأنشأ يكتب جوابها، وجعَل يكتُب ويظنُّ الحاضرون أنَّه يكتب نثرًا، فلمَّا فرغ تأمَّله مَن حضَر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيته"[53]، والتي جاوزت مائة بيت، منها[54]:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ *** مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الْعُلاَ *** قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ *** مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ
وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ *** وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ
فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ *** عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ
وَلاَ تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا *** وَلاَ سَارِقٍ مَالاً لِصَاحِبِ فَاقَةِ
وَلاَ شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلاَ *** وَلاَ نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ
وَلاَ قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ *** وَلاَ مُفْسِدٍ فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ وِجْهَةِ
وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ *** قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي؟
كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ *** وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ
فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ *** وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ
فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى *** يُنَجِّيكَ مِنْ نَارِالإِلَهِ الْعَظِيمَةِ
فَدُونَكَ رَبَّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا *** مُرِيدًا لأَنْ يَهْدِيكَ نَحْوَ الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا *** أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ
كَسُقْمٍ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةٍ *** وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ
فَأَمَّا الأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا *** فَلاَ تُرْتَضَى مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لاَ رِضًا *** بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ *** وَلاَ نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ *** إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِي بِسَخْطَةِ
فَنَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ *** وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ
[size]
وقد تَتابَع العلماء على ذكرها، ومنهم مَن شرحها لجلال قدرها، وممَّا يدلُّ على حضور بديهته: أنَّه قد جاءَتْه امرأةٌ تسأله سؤالاً، وهو[55]:
سؤال:
[/size]
جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدُّهْ *** وَأَنَا عَمَّةٌ لَهُ وَهْوَ خَالِي
أَفْتِنَا يَا إِمَامُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ*** وَيَكْفِيكَ حَادِثَاتِ اللَّيَالِي
[size]
الجواب:
[/size]
رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنْتِهِ *** وَأَتَى الْبِنْتَ بِالنِّكَاحِ الْحَلاَلِ
فَأَتَتْ مِنْهُ بِالَّتِي قَالَتِ الشِّعْ *** رَ وَقَالَتْ لاِبْنِ هَاتِيكَ خَالِي
[size]
ففي هذه الأجوبة السريعة وحضور البديهة: دلالةٌ واضحةٌ على عبقريَّة هذا الإمام، وهذه الذاكرة التي تسعف صاحبها في إبانة رأيه وتوضيحه، كما أنها تُؤازِره في ترسيخ مفهومٍ يَوَدُّ إيصالَه للآخَرين، وهي: بمنزلة الرُّوح للبدن؛ حيث إنَّ العالم الإمام يحتاج إلى مَلَكة كي يبين أحكام الشريعة الغرَّاء على أكمل وجه؛ بل إنه ألَّف في قعدةٍ:"الحموية"، ألَّفها بين الظُّهرَيْن سنة 698هـ، وعمره سبع وثلاثون سنة، وألَّف بعض كتبه، وهو في السجن"[56]، ووصَفَه مَن رَآه من تلاميذه بقوله: " وقلَّ أنْ وقعت واقعةٌ وسُئِل عنها، إلاَّ وأَجاب فيها بديهةً بما بهر واشتهر"[57].
[/size]