كي نتذوق حلاوة الطاعة
بِسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بَركاته
مع كل طلوع شمس أو غروبها تزداد شكوى الكثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من غياب اللذة الروحية المفترضة أثناء أداء العبادات سواء كانت فرائض أو حتى نوافل , ومن فقدان طعم حلاوة الطاعة في القلب , ومن تحول العبادة إلى مجرد عادة أو حركات يؤديها المسلم دون تفاعل أو خشوع يفضي إلى الشعور بلذتها أو تذوق طعم حلاوتها.
ويعبر الكثير من الموحدين عن هذه الشكوى بالقول : أدخل إلى الصلاة في المسجد ثم أخرج دون أن أشعر بحقيقة لذة مناجاة الله تعالى , كما أني لا أجد أثر هذه الفريضة العظيمة في سلوكي التي أشار إليها البيان الإلهي بقوله : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...} العنكبوت/45
أفتح كتاب الله لأتلو كلامه فإذا بي أقرأ الحروف والكلمات ولا أصل إلى روحها ومضمونها , ثم إني أسرع في التلاوة وكأني أستعجل الانتهاء من تلاوة بعض الصفحات التي ألزمت نفسي بها كل يوم , دون أن أستشعر أثناء التلاوة ما ذكره الله من حال المؤمنين أثناء تلاوة كلامه : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا...} الأنفال/2
يتحرك لساني بذكر الله تعالى في الصباح أو المساء , إلا أني لا أجد الطمأنينة والسكينة والسعادة التي ذكر الله تعالى تلازمها مع ذكر الله بقوله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد/28 ........
والحقيقة أن تزايد الشكوى من فقدان الإحساس بحلاوة الطاعة وثمارها المرجوة هو نتيجة بدهية لطغيان المادة على الروح في هذا العصر , و لاجتياح الشهوات والأهواء والمتع الجسدية على الحالات والمعاني الروحية السامية , رغم أن العبودية لله وحده هي مصدر السعادة الحقيقية ليس في الدنيا فحسب , بل وفي الآخرة أيضا , بينما لا تزيد المتع الجسدية الشهوانية الإنسان إلا تعاسة إن هي خرجت عن منهج الله المبين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ليس الخروج من هذا الفتور الروحي وقلة التفاعل القلبي مع العبادة التي يؤديها المسلم لله تعالى بعسير , كما أن سبيل الوصول إلى تذوق طعم العبادة والتلذذ بالطاعة ليس ببعيد , بل هو أمر يسير لمن أراد ووفق , ويكفي أن يكون أحدنا على تواصل مع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يدرك ذلك .
ففي الحديث الصحيح عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ , وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) صحيح البخاري برقم /16
و من يراجع كتب شرح الحديث النبوي يلاحظ إجماع العلماء على أن معنى حلاوة الإيمان هو : التلذذ بالطاعة وإيثار ذلك على عرض الدنيا , وقد عَبَّرَ الشَّارِع عَنْ هَذه اللذة بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّهَا أَظْهَر اللَّذَائِذ الْمَحْسُوسَة .... قال الإمام النووي رحمه الله : قال العلماء : "معنى حلاوة الايمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم وايثار ذلك على عرض الدنيا" . شرح النووي على مسلم 2/13
هي إذن ثلاث خطوات فقط للوصول إلى الشعور بلذة العبادة وتذوق حلاوة الطاعة كما أكد الحديث النبوي , وهي لمن يدقق خطوات تتعلق بأصل الإيمان لا بفروع الإسلام , كما أنها أمور قلبية داخلية لا جسدية خارجية , الأمر الذي يؤكد أهمية أعمال القلوب في دين الله الخاتم , واعتبارها الأساس الذي يبنى ويعول عليها .
ولا بد من التأكيد هنا على أن القلب لا يمكن أن يشعر بلذة العبادة والطاعة ما دام غارقا في بحار الأهواء والشهوات , فكما أن الإنسان لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته , فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك ، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه ، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الطاعة إذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة لتلك العبادات ، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي . فتح الباري لابن رجب 1/45
أما محبة الله تعالى وتقدمها في قلب المسلم على جميع الأغيار , فلعل أيسر طريق ليتشربها القلب استحضار كثرة نعم الله تعالى عليه , فإن القلوب جبلت على حب المنعم والمحسن , ومن هنا يمكن فهم الحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم : (أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْدُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ ...) معجم الطبراني برقم/2573
وأما محبته صلى الله عليه وسلم فإنها متولدة من حب الله تعالى , فالمسلم إذا علم أن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه سيحبه , قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ...} آل عمران/31
والحقيقة أن من يدقق في هذه الخطوة المفصلية للوصول إلى التلذذ بالعبادات وتذوق حلاوتها ... يدرك أن الحب هو أساسها , فمن المعلوم أن المحب يتلذذ بتنفيذ طلبات وأوامر المحبوب البشري وإن كان فيها شيء من الكلفة والمشقة , فكيف إن كان المحبوب الآمر هو الله سبحانه وتعالى !!
ومن هنا فإن من أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقة من قلبه ، أوجب له ذلك أنْ يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه ، وأن يكره ما يكرهان ، ويرضى بما يُرضى الله ورسوله ، ويَسخط ما يُسْخطُهُما ، وأنْ يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض ..... ومتى فعل ذلك شعر بلذة وسعادة لا يمكن مقارنتها بأي لذة أخرى بحال من الأحوال .
ومتى تحقق في قلب المسلم تقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على من سواهما , سهل عليه تحققه بالخطوتين الأخريين , فالمؤمن الذي أحب الله ورسوله لا يمكن أن يحب أحدا من خلقه إلا فيه أو أن يبغض أحدا إلا فيه , ناهيك عن أن من وصل إلى هذه الدرجة من حب الله ورسوله , يكره بالتأكيد أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
إن اتباع المسلم لهواه بعيدا عما يحبه الله ورسوله هو في الحقيقة أهم أسباب فقدان كثير من المسلمين لذة العبادة وطعمها , ولا علاج لهذه الظاهرة إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , حيث الدواء الشافي لكل داء , والجواب الكافي لجميع استفسارات وأسئلة الإنسان .