ويدافعوا عن "المدينة" معهم ضد أي عدو يريد النيل منها . وبدلاً من أن يسارع "اليهود" إلى الدخول في دين الإسلام بعد ما لقوه من سماحة ومعاملة طيبة ، فإنهم ناصبوا المسلمين العداء ، بعد ما أحسوا بنفوسهم المريضة أن دعوة الإسلام أصبحت خطرا عظيمًا يهدد وجودهم وكيانهم ، فسارعوا بنقض معاهدتهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وراحوا يتربصون بالمسلمين ، ويشعلون نار الفتنة ، وخرجت أفاعي اليهود من جحورها لتنفث سمومها في كل مكان ، فمرة ينفرون الناس من الإسلام ، وأخرى يشككون في مبادئه وتعاليمه وسمو رسالته ، وثالثة يزعمون أن الوثنية وعبادة الأصنام خير منه، فلما لم يفلح كل هذا بدءوا يفرقون بين المهاجرين والأنصار من جهة ، وبين "الأوس" و"الخزرج" من جهة أخرى ، بما برعوا فيه من مكر وخداع ومؤامرات : فهذا "شاس بن قيس" أحد زعماء اليهود مر يومًا على نفر من "الأوس" و"الخزرج"، وهم في مجلس حب وإخاء وصفاء فغاظه ما رأى ، وأكل الحقد قلبه ، فأمر شابًّا يهوديًّا أن ينضم إلى مجلسهم ، ويحدثهم عن يوم "بعاث"- ذلك اليوم الذي انتصرت فيه "الأوس" على "الخزرج" قبل الهجرة بخمس سنين- وينشدهم بعض ما قالوه من أشعار تمجد هذا اليوم ، فنفذ اليهودي ما أمره به سيده ، فاشتعلت نار الفتنة بين الجالسين ، وكادت الحرب الدامية تنشب بينهم ، لولا النبي صلى الله عليه وسلم- الذي ذهب إليهم في جماعة من المهاجرين ، وقال لهم: "يا معشر المسلمين ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وألف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا ؟!" . فأفاق القوم من غضبهم ، وعلموا أن هذا كيد من عدوهم ، فألقوا السلاح ، وبكوا ، وعانق بعضهم بعضًا ، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين ، وباء كيد عدوهم " شاس بن قيس" وتدبيره بالخسران والخذلان المبين . ولما انتصر المسلمون في غزوة "بدر" على "قريش" نصرًا مؤزرًا ، وأصبحت لهم عزة وقوة وهيبة في "المدينة" وما حولها ، اغتاظ اليهود في المدينة بشدة ، وعادوا المسلمين ، فكان يهود "بنى قينقاع" يسخرون من المسلمين ، ويقللون من شأن انتصارهم يوم "بدر" ، وقام شاعرهم "كعب بن الأشرف" بحملة عدائية ضد المسلمين ، وأخذ يبكى بشعره قتلى "بدر" من المشركين، ويحرض "قريشًا" على الأخذ بثأرها ، ومحو عار هزيمتها النكراء ، ولم يكتف ذلك الرجل بذلك بل أخذ يهجو رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه . ورأى الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن يعظ هؤلاء القوم بالحسنى أولاً ، ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه من معاندة لله ورسوله، فجمعهم في سوقهم وقال لهم : " يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا" فردوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كبر وغرور قائلين : "يا محمد ، لا يغرنك أنك لقيت قومًا (يقصدون قريشًا) لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة . أما والله لئن حاربناك لتعلمن أننا نحن الناس" . وتمادى "بنو قينقاع" في شرهم ، فاعتدوا على امرأة مسلمة ، دخلت سوقهم لتبيع مصاغًا لها ، فأحاط بها عدد من اليهود ، وآذوها ، وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها، فأبت ، فعقد الصائغ ثوبها إلى ظهرها ، وهى لا تشعر، فلما قامت تكشفت فضحكوا عليها فصاحت واستغاثت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، فتجمع اليهود على المسلم فقتلوه ، فلم يجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بدًّا من غزو هؤلاء الخائنين ، وقد نقضوا العهد الذي بينه وبينهم بهذه الفعلة النكراء ، فحاصرهم خمس عشرة ليلة ، ثم فك الحصار عنهم ، وأجلاهم عن "المدينة" بعد أن أخذ أسلحتهم ، فارتحلوا مخذولين إلى حدود بلاد الشام ، ولم يتعظ من بقى من قبائل اليهود بما حدث لإخوانهم من "بنى قينقاع" ، وراحوا يمارسون هوايتهم في المكر ونسج المؤامرات ، وازدادت جرأتهم بعد غزوة "أحد"، حتى وصل بهم الأمر أن خططوا لمؤامرة تهدف إلى التخلص من النبي – صلى الله عليه وسلم- وظنوا أن الفرصة قد حانت لتنفيذ غدرهم ، عندما خرج إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم- في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة ، ليطلب من يهود "بنى النضير" مساعدته في دفع دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأ ، وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة التي بينهم وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – فتظاهر الغادرون بالموافقة، لكنهم بيتوا الشر ، وطلبوا من النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يجلس بجوار جدار أحد بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا ، وخلا اليهود بعضهم إلى بعض ، وبدؤوا ينسجون خيوط مؤامرتهم الدنيئة ، واتفقوا على أن يلقى أحدهم صخرة كبيرة على النبي – صلى الله عليه وسلم – من فوق ذلك البيت فتقتله ويستريحوا منه ، فنزل "جبريل" – عليه السلام- من عند رب العالمين على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما هم به أولئك الخبثاء من غدر، فقام النبي – صلى الله عليه وسلم- مسرعًا ، وتوجه نحو "المدينة" ، ولحقه من كان معه من أصحابه ، وعندما تأكد للنبي – صلى الله عليه وسلم – إصرار هؤلاء اليهود على الغدر ، وتآمرهم وحقدهم على الإسلام، اتخذ قراره الحاسم بإجلائهم عن "المدينة" ، وأمهلهم عشرة أيام للرحيل ، لكنهم أعلنوا التحدي والمقاومة للنبي – صلى الله عليه وسلم- وأرسل زعيمهم "حيى بن أخطب" للنبي في غطرسة : "إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدالك "، فاتجه النبي – صلى الله عليه وسلم- إليهم في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة ، وحاصرهم حصارًا شديدًا، حتى استسلموا وهم صاغرون ، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم- بخروجهم إلى "خيبر" بأمتعتهم وأموالهم دون سلاح . وتستمر الدسائس والمؤامرات ، ويستمر اليهود في ممارسة هوايتهم في الخيانة ونقض العهود والمواثيق !! غير عابئين بما فعله النبي مع يهود "بنى النضير" ، لكن مؤامرتهم هذه كانت أشد المؤامرات خطرًا ؛ فقد كانت تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين قضاءً مبرمًا ، وذلك بعد أن خطط الغادرون من يهود "بنى النضير" الذين استبعدهم النبي – صلى الله عليه وسلم- إلى "خيبر" بزعامة "حيى بن أخطب"، على تحريض القبائل العربية على محاربة المسلمين في "المدينة" ، لتكون هذه هي الضربة القاصمة ، فلا تقوم للمسلمين بعدها قائمة ، وتحقق للمتآمرين ما أرادوا ، وخرجت القبائل العربية في جيش جرار قوامه عشرة آلاف مقاتل، في شوال من السنة الخامسة للهجرة ، واكتملت خيوط المؤامرة، بعد أن تمكن زعيم "بنى النضير" من تحريض إخوانه في الخيانة من يهود "بنى قريظة" آخر القبائل اليهودية في "المدينة" ، على نقض ما بينهم وبين النبي من عهود ومواثيق ، فأصبح المسلمون بعد تلك المؤامرة بين نارين : نار المشركين الذين يحاصرون "المدينة" ، ولا يمنعهم عن دخولها إلا الخندق الذي حفره المسلمون ، ونار الخائنين من يهود "بنى قريظة" في جنوب "المدينة" ، وهكذا تحالفت كل قوى الشر على كسر شوكة المسلمين ، وإسقاط دولتهم في "المدينة" ، لكن الله – عز وجل- كان لأعداء عباده المؤمنين بالمرصاد ، فقد أرسل الله – تعالى- على الأحزاب ريحًا عاتية اقتلعت خيامهم ، وأسلمتهم إلى اليأس والخذلان ، فأجمعوا أمرهم على الانسحاب ، وكفى الله المؤمنين القتال . ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم- من غزوة "الخندق" ، أمره الله أن يسير بجيشه إلى أولئك الخائنين من "بنى قريظة" لمحاربتهم ، فخرج الرسول – صلى الله عليه وسلم- إليهم ، فلما رأى "بنو قريظة" جيش المسلمين امتلأت قلوبهم رعبًا، وتحصنوا بحصونهم ، وحاصرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خمسًا وعشرين ليلة ، فلما لم يجدوا فائدة من تحصنهم استسلموا ، وسعوا في خبث إلى حلفائهم من قبيلة "الأوس"، لكي يتوسطوا لهم عند النبي، لكي يعاملهم مثل إخوانهم من "بنى قينقاع" ، فاختاروا رجلاً من "الأوس" هو الصحابي الجليل"سعد بن معاذ" ليحكم فيهم ، فحكم "سعد"- رضى الله عنه – بقتل رجالهم ، وسبى نسائهم ، وتقسيم أموالهم ، فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم : "لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبع سنوات" . وقد تطهرت "المدينة" من دنس اليهود وغدرهم، ولم يبق إلا"خيبر" التي كانت تقع على مسافة مائة ميل شمال "المدينة"، وقد أصبحت حصنًا حصينًا ، ووكرًا جديدًا لأفاعي اليهود تحاك فيه المؤامرات ، وتنطلق الدسائس والاضطرابات سواء من يهود "خيبر" أنفسهم أو ممن نزح إليهم من يهود "بنى النضير" ، وكان لأهل "خيبر" دور كبير في تحريض العرب على المسلمين في غزوة "الخندق" ، ودفع يهود "بنى قريظة" على الغدر والخيانة ، كما كانت لهم اتصالات كثيرة مع المنافقين، بل إنهم أرسلوا إلى قبيلة "غطفان"، التي هبت لقتال النبي يعرضون عليهم نصف ثمار "خيبر" إن هم غلبوا المسلمين ، وتمادى هؤلاء في غدرهم وخيانتهم حتى إنهم وضعوا خطة محكمة لاغتيال النبي – صلى الله عليه وسلم- وتهيؤوا لتنفيذها . وما كانت هذه الدسائس لتخفى على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقد كان – صلى الله عليه وسلم- يرقب نشاطهم الخطر ، ويعد أمره لمجابهته والقضاء عليه ، فقد خرج إليهم في أواخر المحرم من السنة السابعة من الهجرة، وبادرهم بهجوم مضاد أفسد تدبيرهم الماكر ، وتهاوت أمامه حصونهم.. حصنًا حصنًا ، وقتل من بينهم الكثير ، فاستولى اليأس عليهم ، وطلبوا من النبي – صلى الله عليه وسلم-الصلح على أن يحقن دماءهم ، فوافقهم النبي – صلى الله عليه وسلم- في سماحة وعفو ، وكان في نيته – صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم، لكنهم طلبوا أن يبقوا في أرضهم يزرعونها ، ويدفعوا نصف ما تنتجه من ثمار إلى المسلمين، فقبل النبي – صلى الله عليه وسلم- ذلك. ومع كل هذه السماحة والإحسان والعفو من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن نفوسهم الحاقدة كانت ومازالت يملؤها الحقد والكره للمسلمين ، وانتهاز أية فرصة للنيل من النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين !! فما كاد النبي يصالحهم على بقائهم في ديارهم، حتى أهدت إليه "زينب بنت الحارث" زوجة "سلام بن مشكم" اليهودي - وكان ممن قتل في غزوة "خيبر" - شاة مسمومة ، ووضعتها بين |