دارت الدنيا دورتها، وأظلنا شهر الصيام في صيف قائظ:
حيث يشتد العطش بالصائمين، ويزداد نصبهم بطول النهار، وإن كانت قلوب كثير من الناس معلَّقة بوقت الإفطار والتفكير في ألم العطش؛ فإن السلف كان لهم شأن آخر؛ ففضلاً عن تذكرهم أحوال الآخرة والموقف بين يدي الله، والموقف يوم تدنو الشمس من الرؤوس، ويشتد الظمأ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ فإنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن الجزاء من جنس العمل:
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة:152)،
(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد:7)،
(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)،
(إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
فمن صام في الحر وصبر على شدة العطش دخل من باب الريان، ومن دخل شرب شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ثم إذا دخل الصائمون من الريان أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم.
كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول:
"صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".
وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وروي ذلك أيضًا عن غيره من السلف.
وقد كانوا -أسكنهم الله فردوسه- يحرصون على ظمإ الهواجر، ويعدونه غنيمة لا يعدلها شيء:
فقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- تصوم في الحر الشديد.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصوم تطوعًا في الحر، فيُغشى عليه، فلا يفطر.
وكان الإمام أحمد -رضي الله عنه- يصوم حتى يكاد يغمى عليه، فيمسح على وجهه الماء.
وكان مجمع التيمي -رحمه الله- يصوم في الصيف حتى يسقط.
كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرًّا فتصومه، فيقال لها في ذلك فتقول:
"إن السِّعر إذا رخص اشتراه كل أحد"، تـُشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم.
ولما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى، فلما أكثر عليه قال:
"حاجتي أن ترد عليَّ من حر البصرة؛ لعل الصوم أن يشتد عليَّ شيئًا، فإنه يخف عليَّ في بلادكم".
خرج ابن عمر -رضي الله عنهما- في سفر معه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال:
"إني صائم"، فقال ابن عمر:
"في مثل هذا اليوم الشديد حره، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وأنت صائم؟!"، فقال:
"أبادر أيامي هذه الخالية"، فعجب منه ابن عمر.
نزل الحَجَّاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابيًّا، فدعاه إلى الغداء معه، فقال:
"دعاني من هو خير منك فأجبته"، قال:
"ومن هو؟"، قال:
"الله -تعالى- دعاني إلى الصيام فصمتُ"، قال:
"في هذا الحر الشديد؟"، قال:
"نعم، صمتُ ليوم أشد منه حرًّا"، قال:
"فأفطر وصم غدًا"، قال:
"إن ضمنت لي البقاء إلى غد"، قال:
"ليس ذلك إليَّ"، قال:
"فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟".
بل كان الصيام في الحر من وصاياهم عند موتهم:
فقد وصَّى عمر -رضي الله عنه- عند موته ابنه عبد الله فقال له:
"عليك بخصال الإيمان"، وسمى أولها:
"الصوم في شدة الحر في الصيف".
وكانوا يتحسرون عند موتهم على فقد لذة ظمإ الهواجر:
فعن عمرو بن قيس أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما طعن جعلت سكرات الموت تغشاه، ثم يفيق الإفاقة فيقول:
"اخنقني خنقاتك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحب لقاءك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لمكابدة الساعات، وظمإ الهواجر، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
وعن أشعث بن سوار، قال:
دخلت على يزيد الرقاشي في يوم شديد الحر، فقال: "يا أشعث، تعال حتى نبكي على الماء البارد في يوم الظمإ"، ثم قال: "والهفاه، سبقني العابدون وقطع بي".
وربك كريم، يجازي على الإحسان إحسانًا:قال كعب الأحبار: "
إن الله -تعالى- قال لموسى -عليه السلام-: إني آليت على نفسي أنه من عطَّش نفسه لي أن أرويه يوم القيامة".
وقال غيره:
"مكتوب في التوراة: طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر".
قال الحسن البصري:
"تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس في أنعم عيشه: أتدري أي يوم زوجنيك الله؟ إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمإ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجته ولذته، وطعامه وشرابه من أجلي؛ رغبة فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك".
من ذاق حلاوة الطاعة هان عليه الألم:
ومن زاد شوقه تلذذا بظمإ الهواجر وجوع النهار الطويل، فالفرق كبيرٌ والبون شاسعٌ بين من صام في حرِّ الصيف ولم يعرف من صومه إلا الجوع والعطش، ومن صام وذاق لذة ظمإ الهواجر.
وإن كان صيامهم في نافلة؛ فإن صيام الفريضة أولى بهذا الفضل والأجر، فأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- ما افترضه على عباده، فالصبر على الألم في الفريضة أحب إلى الله من الصبر عليه في النافلة، وصيام رمضان الذي فرضه الله -عز وجل- على عباده أحب إليه من صيام النافلة، وصلاة الفريضة أحب إلى الله -عز وجل- من صلاة النافلة، والزكاة المفروضة أحب إلى الله -عز وجل- من الصدقات المستحبة، وقد قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي:
(وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك، قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة، إذا هاتف فوقهم يهتف:
يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف، سقاه الله يوم العطش .
حديث حسن: قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن إن شاء الله، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) .
وعن أبي موسى بنحوه إلَّا أنه قال فيه. قال:
"إن الله قضى على نفسه أنّ من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقّا على الله أن يُرويه يوم القيامة".
قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرّاً فيصومه .
حديث حسن: حسّنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) .
وجاء في كتاب الجوع لابن أبي الدنيا : 236 :
( يوضع للصوام يوم القيامة مائدة ، يأكلون عليها والناس في الحساب ، فيقولون : يا رب ، نحن نحاسب وهؤلاء يأكلون ؟ » قال : « لأنهم طالما صاموا وأفطرتم ، وقاموا ونمتم ) .
وعن علي بن أبي طالب قال :
" حبب إلي من دنياكم ثلاث : إطعام الضيف ، والصوم بالصيف ، و الضرب بالسيف"
فدونك أخبارهم، فيها عبرة لمن أراد أن يلحق بهم، قد زال تعبهم وبقي الأجر، ومضى ليل النَّصَب وطلع الفجر.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
اللهم تقبل منا الصيام والقيام واحشرنا في زمرة خير الأنام يا أرحم الراحمين يا رب العالمين..