• الفظيع هو السجون التي في دواخلنا..
وتتأمل داخله فتألف المرأة فيه مكبلة، والعطر الفاغم لم يتب على خدرهما معاً[19]"
تحيل هذه القفلة التأملية على فضاعة السجون والزنازن والمعتقلات في الشرق العربي. كما تشير أيضا إلى قسوة السجن الداخلي الذي يرتبط بالذات في صراعها مع نفسها أو مع واقعها الموضوعي. كما يتراءى سجن المرأة القاسي في مرآة الرجل الشرقي، على الرغم من عطرها الفواح، وجاذبية حسنها الأخاذ.
القفلة الإنشائية:
تنتهي بعض قصص ميمون حرش بقفلة إنشائية، تتجاوز الخبر والتقرير والمباشرة إلى جمل استلزامية مبنية على تنويع أساليب الإنشاء مقالا ومقاما وسياقا، كما يظهر ذلك واضحا في قصة (الدرس الأول):
" تحب الصمت بجنون، لذلك لا تحضر مجالس النساء، ولا تشارك الرجال اجتماعاتهم،..
في حضرة النساء اللجوجاتهي امرأة رجل، وفي حضرة الرجال "الديكة" مسدس كاتم الصوت لكل رغبة شاذة..
حاروا فيها، وحين سألوا من تكون، رفعت رأسها، ونظرت فوق فأطالت النظر، بدت لهم مثل شجرة سنية، ثمارها جنية.. جاروها في فعلتها فتعبت رؤوسهم بسرعة فنكسوها..
شكلوا دائرة،بدوا حولها هُلاميين،رفعت من أجلهم سُبابتها دون أن تطأطئ الرأس،وكتبت في الهواء كلمات انداحت في السماء، ثم تناثرت في الأرض لتشكل جملة واحدة.
" عودوا غداً، للدرس بقية "..[20]".
تنتهي هذه القصة التي تعبر عن المرأة الجسورة بقفلة إنشائية وردت في شكل جملة أمر (عودوا غدا، للدرس بقية)، وقد تكون هذه الجملة الطلبية صريحة أو جملة استلزامية تحمل دلالة الإرشاد والنصح والتوجيه.
القفلة الانزياحية:
تكون القفلة انزياحا حينما تنتهك الخاتمة المعيار، أو تنزاح عن القاعدة التركيبية الأصلية، فتحدث بذلك نوعا من التشويش،خاصة تشويش الرتبة، كما يتبين ذلك باديا في قصة (الحمل الثقيل):
" الطفل.فوق الظهر.لايكف عن البكاء..أمه.
تنوء به. تناغيه. تحمله. وتسير به على أربع:
" نيني يا مومو
حتى إطيب عشانا
إلى ماطاب عشانا
إطيب عشا جيرانا"
الأب يرمق الابن وأمه. يحملهما معا..
يخرج. ينتشر في الأرض باحثا عمن يحمله..
في الخارج.العالم كله كان محمولا.."[21].
تنتهي القصة بجملة انزياحية (في الخارج. العالم كله كان محمولا..) يمس فيها الانتهاك أو الخرق المستوى التركيبي، حيث يتقدم فيها شبه الجملة على الجملة الفعلية الناسخة، كما يتقدم الاسم والتوكيد المعنوي الفعل الناسخ، والغرض من هذا كله هو التخصيص والتقديم والتبئير.
النهاية المفاجئة:
تنتهي بعض قصص ميمون حرش بنهاية مفاجئة تصدم المتلقي بمعطياتها الخارقة أو السريالية أو بصيغها الفانطاستيكية القائمة على التغريب أو التعجيب، كما يتضح ذلك جليا في قصة (رؤوس تماسيح):
" بالنهار تطول يداه.يحضن حجرا.وينخرط مع أطفال الحجارة لإحياء الكرنفال للحجارة.
وبالليل ينشغل بكلمات كبيرة:
[نشجب]
[ نندد]
[هذا منكر]
[ نشجب]
[ نحتج بشدة]
[ نعقد قمة طارئة عاجلة]
[....]
يكتبها في وريقات يقصها من دفتره المدرسي.
وحين ضاق ذرعا بما يكتب من كلمات.حفر قبورا صغيرة.ودفن فيها قصاصاته ثم ارتاح.لكنه في اليوم الموالي كانت المفاجأة:
" لقد أنبتت رؤوس تماسيح"[22]".
تنتهي قفلة القصة بخاتمة مفاجئة غرائبية، تتمثل في تحول الشعارات السياسية الجوفاء إلى قوة ردعية مفاجئة. بمعنى أن السارد يثور على القول العاجز، ويستبدله بقوة الفعل والإنجاز.
القفلة التناصية:
تعد قصص ميمون حرش قصصا تناصية بامتياز، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى اتساع ثقافته، وتبحره في مجالات معرفية متنوعة، سيما أنه يغترف من السرد العالمي بصفة عامة، والسرد العربي بصفة خاصة. ولا تقتصر المعرفة الخلفية على بداية القصة ووسطها فحسب، بل تتعدى ذلك إلى قفلتها كما في قصة (فوق وتحت):
" من عل. كصخرة امرئ القيس. حطت على قدميه حصاة ملفوف فيها ورقة..
تخطاها دون أن يكترث. وبدل أن ينظر فوق.
أو يقرأ الورقة تفل على يمينه وهو يتمتم:
" سنظل مثل حفار القبور. همنا تحت. وليس فوق."
تطفح هذه القصة بمجموعة من الإحالات التناصية (فوق وتحت/ امرؤ القيس/ حطت من عل/ حفار القبور)، بالإضافة إلى طابعها الساخر الذي يقوم على جدلية الاعتلاء والانبطاح أو جدلية السمو والانحطاط.
القفلة الساخرة:
تنتهي كثير من قصص ميمون حرش بالنهاية الساخرة التي تقوم على الفكاهة والسخرية والمفارقة، كما يتضح ذلك جليا في قصة (هؤلاء وهؤلاء):
" هؤلاء مولعون بالبارسا
آخرون مدريديو الهوى،
وبين الفئتين غرباء في وطنهم
يبحثون عن مرمى..[23]".
تسخر هذه القفلة من واقع الناس المغفلين الذين ينشغلون بسفاسف الأمور، ويتركون ما هو أهم وأجل.
القفلة التشكيلية:
نعني بالقفلة التشكيلية تلك النهاية التي تتداخل فيها آليات الرسم والتشكيل والتلوين لتأثيث فضاء تشكيلي شاعري، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة (الدخيل):
" رسمها بديع، بشهادة الجميع..
هي خُناس في شعرها الصامت.
آخر لوحاتها سكنت منها الأضلع.
تمخضت داخلها ولادة قيصرية.
لم ينفع معها رصاص مَبري، ولا زبد بحري..
أمامها اللون الأحمر كُميت شموس.. ولما لم ينقد لها جرحت معصمها.
ومن دمها الوارف متحت ريشتُها آخرَ اللمسات.
واللوحة مع ذلك لا تولد.
والألوان، كأوراق الخريف، تساقطت منها تباعاً..
لقد غارت من الأحمر الدخيل وغادرت...[24]".
ترسم هذه القفلة لوحة تشكيلية لمنظر انطباعي تشكيلي أخاذ، تطبعها الألوان الحارة الدالة على الشحنة الدرامية في توترها وتأزمها واضمحلالها.
تركيب:
وخلاصة القول، يتبين لنا - مما سبق قوله - بأن ميمون حرش يعد من أهم مبدعي القصة القصيرة جدا في الوطن العربي كتابة وأسلوبا وتشكيلا ورؤية، سيما وأنه يتميز بقصص فانطاستيكية مأساوية، تطفح تغريبا وتعجيبا ومفارقة. وبالتالي،تحمل رؤية امتساخية حبلى بالسريالية المتوحشة وغرابة الواقع.
هذا، وينوع ميمون حرش قفل قصصه القصيرة جدا، وإن كانت القفلة السردية هي الأكثر هيمنة في قصصه مقارنة بالقفل الأخرى، مادامت القصة في طبيعتها مبنية على حبكة حكائية وسردية.
وعلى الرغم من ذلك، فقد وظف ميمون حرش في أضمومته الثانية (نجي ليلتي)[25]: القفلة الحوارية، والقفلة المفاجئة، والقفلة الإنشائية، والقفلة الانزياحية، والقفلة الساخرة، والقفلة المطابقة، والقفلة التناصية، والقفلة الفانطاستيكية، والقفلة المضمرة...
ويدل هذا التنويع في القفل على مدى تمكن ميمون حرش من آليات الكتابة السردية المتعلقة بالقصة القصيرة جدا بناء وتشكيلا وتحبيكا وتخطيبا. بيد أن هناك قفلا أخرى لم يستثمرها الكاتب في عمله القصصي هذا، مثل: القفلة الميتاسردية، والقفلة المدورة، والقفلة الوصفية، والقفلة المشهدية، والقفلة المسكوكة، والقفلة الشذرية،... إلخ.
[1] أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:48.
[2]ميمون حرش: نجي ليلتي، مطبعة رباط نيت، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2013م.
[3] أرسطو: فن الشعر، ترجمة وتحقيق: إبراهيم حمادة، هلا للنشر والتوزيع، القاهرة،مصر، طبعة 1999م، ص:128.
[4] د.أحمد العدواني: بداية النص الروائي، النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011م.
[5] عبدالمالك أشهبون: البداية والنهاية في الرواية العربية، دار رؤية للنشر والتوزيع بمصر 2013م.
[6] أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:48.
[7] د.يوسف الحطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م، صص:105-111.
[8] جاسم خلف إلياس: شعرية القصة القصيرة جدا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2010م، صص:179.
[9] د. جميل حمداوي: من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا، مطابع الأنوار المغاربية، وجدة، الطبعة الأولى سنة 2011م.
[10] د. جميل حمداوي: مقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري (مقاربة ميكروسردية)، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م.
[11] ميمون حرش: نفسه، ص:7.
[12] ميمون حرش: نفسه، ص:6.
[13] ميمون حرش: نفسه، ص:61.
[14] ميمون حرش: نفسه، ص:22.
[15] ميمون حرش: نفسه، ص:11.
[16] ميمون حرش: نفسه، ص10.
[17] ميمون حرش: نفسه، ص:12.
[18]ميمون حرش: نفسه، ص:14.
[19]ميمون حرش: نفسه، ص:18.
[20]ميمون حرش: نفسه، ص:20.
[21] ميمون حرش: نفسه، ص:9.
[22] ميمون حرش: نفسه، ص:17.
[23]ميمون حرش: نفسه، ص:33.
[24] ميمون حرش: نفسه، ص:50.
[25] أصدر ميمون حرش مجموعته السردية الأولى (ريف الحسناء) عن مطبعة رباط نيت سنة 2012م.
تم بحمد الله