مقدمة:
من أهم محطات تاريخ الجزائر التي تستحق كل الاهتمام و التقدير مظاهرات ديسمبر 1960 التي تعد حدثا تاريخيا بارزا في مسيرة الثورة التحريرية حين اخترقت صمت الأمم المتحدة بقوة التلاحم الشعبي للجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات عبر شوارع المدن الجزائرية حاملين العلم الوطني رمز العزة، مؤكدين بذلك رفضهم القاطع لمخططات الجنرال ديغول و تحطيمهم نهائيا خرافة الجزائر فرنسية ، حيث سقطت أسطورة التفوق الاستعماري أمام الرأي العالمي ، و فشلت سياسة ديغول في القضاء على الثورة، و أيقن خلالها أن الشعب الجزائري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون فرنسيا و لا الجزائر فرنسية كما يدعّي المعمّرون.
أسباب المظاهرات:عند زيارة ديغول الجزائر في إطار تنفيذ مشروعه الجديد المتمثل في” الجزائر جزائرية” انقسمت الساحة السياسية الجزائرية إلى ثلاثة مجموعات رئيسية :
1- المعمّرون المناهضون لسياسة ديغول و هم الذين قاموا بمظاهرات يوم 9 ديسمبر 1960 في عين تيموشنت ضد زيارة الجنرال ديغول محاولين إحباط برنامجه المبني على” الجزائر جزائرية” و حاملين لواء “الجزائر فرنسية”.
2- أنصار “الديغولية” من الفرنسيين و الجزائريين المقتنعين بسياسته من البرجوازيين و بعض البرلمانيين. خرجت هذه المجموعة في مظاهرات لمساندة مشروع ديغول بإيعاز من حكومة باريس يوم 10 ديسمبر 1960 بغرض إفشال مشاريع المعمرين المناهضين لسياسة ديغول في الجزائر، شعارهم “الجزائر جزائرية”.
3- التيار الوطني تمثله الجماهير الشعبية التي دخلت حلبة الصراع بقوة كتعبير عن رفضها للمشروعين الأولين في مظاهرات يوم 11 ديسمبر 1960، عبرت خلالها عن تمسكها بقيادة الثورة و استقلال الجزائر. شعارهم ” الجزائر عربية مسلمة” – ” الجزائر مستقلة”.
سير المظاهرات:شرع الجنرال ديغول في زيارة الجزائر في 9 ديسمبر 1960 بداية من عين تموشنت للإشراف شخصيا على تطبيق مخططاته و إثبات فكرة “الجزائر جزائرية” ، استقبله المستوطنون بمظاهرات مضاّدة كان شعارها “الجزائر فرنسية”.
في المقابل عبرت الجماهير الشعبية بقيادة جبهة التحرير الوطني يوم 11 ديسمبر عن وحدة الوطن والتفاف الشعب حول الثورة التحريرية مطالبة بالاستقلال التام للجزائر، و ذلك في مظاهرات شعبية تفيض بالحماس ،حمل خلالها المتظاهرون العلم الوطني و شعارات كتب عليها” تحيا الجزائر” – ” تحيا جبهة التحرير الوطني” – ” تحيا الجزائر مسلمة”.
و في يوم الأحد 11 ديسمبر انطلقت المظاهرات بالعاصمة في حي بلكور (شارع بلوزداد حاليا) لتتوسع إلى أحياء كل من المدنية ، باب الوادي، الحراش ، بئر مراد ريس ، القبة ، بئر خادم ، ديار السعادة ، القصبة، مناخ فرنسا (وادي قريش)، كمــــــا عرفت كذلـــــــك ساحـــــة الورشــــــات ( أول ماي حاليا ) و شـــــوارع مــــيشلي ( ديدوش مراد حاليا ) كثافة شعبية متماسكة مجندة وراء العلم الوطني و شعارات الاستقلال و حياة جبهة التحرير الوطني. وسرعان ما ظهر التنظيم المحكم في هذه المظاهرات إذ عينت لجنة تنظيمية في كل حي، لتمتد إلى المدن الجزائرية الأخرى في الأيام اللاحقة في كل من تيبازة وشرشال في 12 ديسمبر، سيدي بلعباس و قسنطينة في 13 ديسمبر و عنابة في 16 ديسمبر. و كان الشبان الجزائريون يتصلون بالصحافيين الذين جاءوا لتغطية الحدث طالبين منهم نقل صورة تبين حقيقة ما يجري في الجزائر وهم يهتفون “نريد الحرية- نريد الاستقلال”.
تصدي القوات الاستعمارية لمتظاهرين: إن ممّا لا شك فيه أن الفرنسيين قد فوجئوا بحوادث العاصمة و وهران و قسنطينة و عنابة و غيرها مثلما فوجئوا بثورة أول نوفمبر. فجاء رد فعل السلطات الفرنسية قويا تجاه المظاهرات، إذ قابل الجيش الفرنسي الجموع الجزائرية بالدبابات و المدافع و الرشاشات و أمطروهم بنيران القنابل و أطلقوا عليهم الرصاص. كما قامت الشرطة الفرنسية بالمداهمات الليلية لاختطاف الجزائريين من منازلهم، و الإغارة على المواطنين وهم يوارون شهداءهم (كما هو الحال في مقبرة القطار سيدي امحمد ) مما زاد في عدد القتلى بالإضافة إلى سلسلة الاعتقالات التي مست عدد كبير من الجزائريين.
موقف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية:بعد أن حقّقت جبهة التحرير انتصارا سياسيا واضحا رداً على سياسة ديغول و المعمرين معا، عقد الرئيس “فرحات عباس” رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ندوة صحفية صباح يوم الاثنين 12 ديسمبر 1960 بنزل الماجستيك بالجزائر العاصمة، خصّصها للحديث عن التطورات الأخيرة للقضية الجزائرية و قد حضر هذه الندوة عدد كبير من الملحقين الصحفيين بسفارات الدول العربية و الأسيوية والإفريقية و ممثلي الصحافة المحلية و الأجنبية و الإذاعات و وكالات الأنباء. كما ألقى الرئيس “فرحات عباس” في هذه الندوة بيانا طويلا أجاب فيه عن أسئلة الصحفيين وجاء في نص البيان” أن الشعب الجزائري يؤكد تعلقه بالاستقلال الوطني وبحكومته” .
في نفس المجال توجه الرئيس فرحات عباس يوم 16 ديسمبر 1960 إلى الشعب الجزائري بنداء أشاد فيه ببسالة الشعب و تمسكه بالاستقلال الوطني و إفشاله للسياسة الاستعمارية و الجرائم المرتكبة ضد المدنيين العزل.
نتائج المظاهرات:- أكدت المظاهرات الشعبية على تلاحم الشعب الجزائري و تماسكه و تجنيده وراء مبادئ جبهة التحرير الوطني للقضاء على سياسة ديغول الجديدة المتمثلة في فكرة ” الجزائر جزائرية” و فكرة المعمرين “الجزائر فرنسية”.
- أظهرت هذه المظاهرات حقيقة الاستعمار الفرنسي الإجرامية أمام الرأي العالمي، من خلال تحديه – وهو الأعزل- لقوات العدو المدعّمة بالحلف الأطلسي وإحباط كل محاولته القمعية.
- أسفرت هذه المظاهرات على عشرات القتلى في صفوف الجزائريين منهم عدد كبير من الجرحى والمعتقلين. و أثبت الشعب الجزائري للجنرال ديغول وللعالم بأسره أن الثورة الجزائرية ثورة شعب يرفض كل أنواع المساومات بما في ذلك مشروع “ديغول”: “الجزائر جزائرية”.
-أما على المستوى الدولي فقد برهنت المظاهرات الشعبية على المساندة المطلقة لجبهة التحرير الوطني، و اقتنعت هيئة الأمم المتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها. كما صوتت اللجنة السياسية للجمعية العامة لصالح القضية الجزائرية و رفضت المبررات الفرنسية المضللة للرأي العام العالمي.
– اتسعت دائرة التضامن مع الشعب الجزائري عبر العالم خاصة في العالم العربي و حتى في فرنسا نفسها، حيث خرجت الجماهير الشعبية في مظاهرات مؤيدة للقضية الجزائرية، أدخلت فرنسا في نفق الصراعات الداخلية و عزلة دولية في نفس الوقت، الأمر الذي أجبر “ديغول” على الدخول في مفاوضات مع جبهة التحرير الوطني الممثل الشرعي و الوحيد للشعب الجزائري و هو الأمل الوحيد لإنقاذ فرنسا من الانهيار الكلي .
- برهنت هذه المظاهرات على أن الشعب الجزائري لم يعد يحتمل التعسف و الغدر و حتى أن يستعمل كأداة لتطبيق برامج السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر وذلك ما أكدته التقارير الواردة من الولاية العامة الفرنسية بالجزائر العاصمة ومن جميع أنحاء القطر الجزائري التي جاءت متفقة حول نقطة أساسية وهي أن الجزائريين و في جميع أنحاء البلاد لا يمكن حملهم بالقوة للمشاركة في مهزلة الاستفتاء المقرر إجراءه بالجزائر .
– و لعل أبرز نتيجة لهذه المظاهرات هي تحرك القضية الجزائرية في المحافل الدولية و خاصة منبر الأمم المتحدة ، و كسبها المزيد من تأييد الرأي العام الدولي لها و إعطائها نفسا جديدا خاصة و أن مظاهرات ديسمبر 1960 تزامنت مع مناقشة الأمم المتحدة للقضية الجزائرية ففي 20 ديسمبر 1960 تمت المصادقة على اللائحة الأفرو-آسيوية التي تشرف و تراقب مهمة تقرير المصير في الجزائر فكانت النتيجة بالأغلبية لصالح القضية الجزائرية بـــ63 صوتا ضد 27 مع امتناع 8 أصوات. حينها أيقن الاستعمار الفرنسي انه قد خسر الحرب نهائيا وما عليه إلا التسليم بالأمر.