عوامل بناء النفس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسأل الله أن يجعل هذا الجمع في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات .
أما بعد أحبتي في الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله –جل وعلا-، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم نلقى الله. (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ) يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الصَّاخة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ثم اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى، ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى؛ فمن هجر اللذات نال المنى، ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد.
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها *** وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا *** ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّنًا جليًّا واضحًا، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة ،صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسرًا وعسرًا، ثم عمل موازنة، فوجد أن الدهر يومان؛ ذا أمن وذا خطر، والعيش عيشان؛ ذا صفو وذا كدر، فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَئِس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبدًا، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسانه، حال هذا الصنف:
أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ *** مني وشفرة سيف الهند في طرفٍ
فلا أبالي بأشواك ولا مِحَن *** على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت *** بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ
وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل عن كثير.
هاهو [مجاهد]، جريح من جرحي أُحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات. فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟. اسمع ما رواه [الحاكم] عن [زيد بن ثابت] –رضي الله عنه – قال: "بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد لطلب [سعد بن الربيع] –رضي الله عنه وأرضاه- في القتلى، وقال لي: إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني كيف تجده؟ قال زيد: فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد إن الله يقرئك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجده؟ قال: وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟ وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف ثم فاضت روحه -رحمه الله-".
ثبت سعد، وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، ما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة، والرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه.
ولئن انتقلت بعيدًا عن هذا لوجدت الخير في الأمة لا يزال وسيبقى بإذن الله –عز وجل-. هاهو [الزهري] –عليه رحمة الله- ذلكم المحدث الكبير الذي يدخل على [هشام بن عبد الملك]، فيقول: يقول هشام للعلماء –وكانوا حوله-: من الذي تولى كِبر الإفك في حادثة الإفك؟ –وكان هشام يدعي أن الذي تولى كبره هو علي –رضي الله عنه وأرضاه-، فقال هشام [لسليمان بن يسار]: من الذي تولي كبره؟ قال: [ابن أُبيٍّ]، فقال هشام: كذبت، هو علي بن أبي طالب، فقال سليما: الأمير أعلم بما يقول، ثم قال للآخر: من الذي تولى كبره؟ فأجابه وكذَّبه، ثم وصل الدور إلى الإمام، إلى[ الإمام الزهري] -عليه رحمة الله- ذلكم الرجل الذي نحسب أنه أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فقال له هشام: من تولي كبره؟ قال: ابن أُبيٍّ -عليه من الله ما يستحق- قال: كذبت، فانتفض الإمام الزهري، وقال: أنا أكذب، لا أب لك، والذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: أن الكذب حلال، ما كذبت، والذي لا إله إلاَّ هو لقد حدثني [سعيد] [وعروة] [وعبيدة] و[علقمة] عن عائشة بأن الذي تولى كبره هو عبد الله ابن أُبيٍّ، فارتعد هشام وانتفض، وقال: هيَّجناك -يا إمام- سامِحْنا، سامِحْنا. إنه الثبات! وإنه بناء النفس الذي لا يضره أي موقف يتعرض إليه من محنة أو منحة!
وقبل هذا وذاك أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ هاهو [يوسف] –عليه السلام- في عنفوان شبابه، وفي قمة نضجه تخرج إليه وتبرز إليه امرأة العزيز الجميلة، بأبهى حُلَّة، متعطرة، متبهرجة، مبدية لمفاتنها، قد غلَّقت الأبواب، ودَعَتْهُ بصريح العبارة ولم تُكنِّ، فقالت: (هَيْتَ لَكَ) أقبل (قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ولم تقتصر الفتنة عند ذلك؛ بل ازدادت سعيرًا حين شملت نساء عِلْيَة القوم؛ حين أُعجِبْنَ بيوسف -عليه السلام- وفُتِنَّ برجولته وجماله؛ فأخذن يطاردْنَه، يُردْنه أن يعمل بهن الفاحشة، وتبلغ الأمور ذروتها يوم تأتي امرأة العزيز تهدده، وتقول: (وَلَئِن لمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونن من الصَّاغِرِينَ) ماذا رد (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ) إنه ثبات أنبياء الله أمام الشهوات وأمام التهديدات، عليهم صلوات الله وسلامه، وهم الأسوة والقدوة، إنه الثبات بكل معانيه، والثبات بكل مبانيه أمام الشهوات وأمام الشبهات، والذي لا يوفَّق له إلا مَنْ علم صدقَه ربُّ الأرض والسماوات.
ولا يَخْفَاكُم إن خَفَاكُم شيء ما لقيه [ الإمام أحمد] في سبيل عقيدته من أذى وتعذيب، تُخلَع يداه، ويُجلد السياطَ الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قساة القلوب، وغلاظ الأفئدة ليجلده كل واحدٍ منهم سوطيْن بكل ما أوتيَ من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبدًا، يغمى عليه من شدة التعذيب ثم يفيق، فيعرض عليه الأمر فلا يتراجع، حتى انتصر بإيمانه وبناء نفسه، وبتوفيق الله قبل هذا وذاك، وكان انتصاره دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة. لقد خرج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخل في الكِير، فخرج ذهبًا أحمر، وتواطأت القلوب على محبته، حتى أصبح حبه شعارًا لأهل السنة. فأين الذين عارضوه؟ وأين الذين عذَّبوه؟ وأين الذين نالوا منه؟ ذهبوا إلى ما قدموا.
وبقي حيًّا بذكره *** والذكر للإنسان عمر ثانٍ
والبغي مهما طال عدوانه *** فالله من عدوانه أكبر
وتتعاقب النماذج الثابتة المبنية في هذه الأمة، والخير فيها، ولو خلت لانقلبت -كما قيل-. ويتحالف [الصالح إسماعيل] مع الصليبيين، والثمن تسليم ديار المسلمين، فشهد ذلك الأمر [العز بن عبد السلام]، وشقَّ عليها الأمر، شقَّ على سلطان العلماء، فأنكر ذلك أيَّما إنكار، وترك الدعاء لإسماعيل، وعندئذٍ كتب جواسيس السلطان الذين بثَّهم لاستراق السمع بذلك، ورفعوا التقارير الظالمة، وحرَّفوا القول وزخرفوه، فجاء كتاب السلطان باعتقال العز بن عبد السلام -عليه رحمة الله-، فسجن وضُيِّق عليه، ثم أطلق ومُنع من الخطابة والتدريس، ومُنع من الاجتماع إليه، وخرج مهاجرًا إلى أرض <مصر>، فأرسل له السلطان رسولاً وطلب منه التلطف مع العز، وعرض عليه بعض الأمور علَّه أن يلين أو يَهِن أو يضعف. قال: إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله في خيْمة بجانب خيْمتي. ذهب رسول السلطان إلى سلطان العلماء، وقال له: يا إمام بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فأبى سلطان العلماء إلا الثبوت على محض الحق، وقال قولاً خرَّ من هوله ذلك الرسول صعقًا. قال : يا مسكين والله -الذي لا إله إلا هو- ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد الله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فأرغى رسول السلطان وأَزْبَدَ، وهدده، وأعلن اعتقال الشيخ على الملأ، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فاعتقلوه في خيمة بجانب خيمة السلطان، فأخذ الشيخ يرتل آيات الله البينات، يتصل بالله عن طريق التعبد بكلام الله، وكان بعض ملوك الصليبين عند ذلك السلطان، فقال هذا السلطان: أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال: هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم. فلما سمع ملوك الفرنجة هذه الميوعة الرخيصة من ذلك السلطان أرادوا أن يهينوه ويُذلُّوه؛ لأنه هان واستمرأ الهوان. قالوا: والله لو كان هذا قسيسنا لغسَّلنا رجليْه وشربنا مرقتها، ثم انتصر المسلمون بعد ذلك على الصليبين، ونجَّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، فدخل مصر آمنًا لم يقدم تنازلاً، وازداد في الحق صلابة، فرحمه الله. إنه بناء النفوس، إنه الإباء والاستعلاء، إنها ليست كبرياء إنما هي عزة العقيدة وعلو الراية –ولاشك-.
ولقد تعرض البناة لأنفسهم في كل العصور لمواقف فنجحوا فيها بفضل الله. أحدهم يصدع بكلمة الحق فيشْرَق بها المنافقون والظالمون، ويذيقونه في سبيلها ألوانًا شتى من التعذيب في السجن لا تضاهيها إلاَّ ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتطارده الساعات، ثم تنقض على لحمة تنهشه نهشًا إذا توقف عن الجري وهو صابر ثابت، معتصم بالله، لن يرده ذلك عن هدفه، ولم يصده عن بغيته وغايته، فأغاظهم ذلك فماذا يفعلون؟ حكموا عليه بالقتل، وتلك –والله- فتنة أيما فتنة، ثم جاءه الإغراء أن استرحِمْ ذلك الظالم ليخفف عنك الحكم، فقال: -في إباء واستعلاء-: لئن كنت حوكمت بحقٍ فأنا أرتضي الحق، وإن كنت حوكمت في باطل؛ فأنا أعلى من أن أسترحم الباطل، إن يدي التي تشهد لله بالوحدانية كل يوم مرات لترفض أن تقر حكم ظالم أيًّا كان ذلك الظالم ثم يقاد إلى حتفِه، ولسان حاله:
الله أسعدني بظل عقيدتي *** أفيستطيع الخلق أن يشقوني
ويأتي أحد علماء السوء الذين باعوا دينهم بعرَضٍ من الدنيا، وما بنَوْا أنفسهم ليلقنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله فيبتسم تبسم المغضب، ويقول: يا مسكين أنا أقاد إلى الموت من أجل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكل فتات الموائد بلا إله إلا الله، لا نامت أعين الجبناء. إنه البناء الحقيقي للأنفس. إنها الثقة بأنهم على الحق. إنها الثقة بغلبة دين الهدى على دين الهوى وبقوة الله على كل القوى
لا تظنوا -يا أيها الأحبة- أن البناء في الرجال –فقط- إنه كذلك في النساء والأطفال؛ هاهو أحد المحدثين <بخراسان>، واسمه [محمد بن عاصم] –عليه رحمة الله – له بُنيات صغار، لا ولد ذكر يقوم عليهن، انتقل إلى بغداد يوم سمع محنة [الإمام أحمد] ليحدث الناس، ويسد ثغرة قد فُتِحَت في ذلك البلد، ترك بنياته بخراسان، وسمع في بغداد بتلك المحنة، فانطلق إلى الإمام أحمد، وقد علم أن سُجن وعُذِّب وأوذي في الله –عز وجل-، فقال لأصحابه – وهو يحدث يومًا من الأيام في حلقته-: ألا نقوم فنقول كلمة الحق؟ وقام ليقولها، وتذكر بنياته اللاتي تركهن في خراسان، وعلم أن رجلاً يقوم ليقول كلمة في ذلك المقام ما عاقبته إلا الموت، وهو في هذا الصراع مع نفسه يأتيه كتاب من بنيَّاته يقلن له: يا أبانا إنا قد سمعنا أن الرجل قد دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، وإنا نأمرك بأن لا تجيب؛ فوالذي لا إله إلا هو -يا أبانا- لأن يأتينا نعْيُك أحبُّ إلينا من أن نسمع أنك قلت بخلق القرآن. الله أكبر، إنه البناء في أوساط النساء، في أوساط البنات، في أوساط الرجال. أُسَرٌ لم تعرف إلا ربها فهان في سبيله كل شيء، واستعذب في سبيله كل صعب .
كل بذل إذا العقيدة ريعَتْ *** دون بذل النفوس نذر زهيد
مسلم يا صعاب لن تقهريني *** في فؤادي زمازم ورعود
لا أبالي ولو أُقيمت بدربي *** وطريقي حواجز وسدود
من دمائي في مقفرات البراري *** يطلع الزهر والحياة والورود
هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها. لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهنًا عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزنًا على فائت من الدنيا؟ إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، ليكن للباطل سلطانه، ليكن له هيله وهيلمانه، ليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئًا.
هذا هو الصنف الأول من الناس ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف .
أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ، يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، يذوب أمام المحنة فلا يتماسك، يلعب بعواطفه الخبر البسيط فلا يثبت، يطير فؤاده للنبأ الخفيف فلا يسكن، فؤاده هواه، يعيش موزعًا بين همِّ حياة حاضر ومفاجآت تنتظر، لا تطمئن لقوله، ولا تثق في تصرفاته، بصره زائغ، عقله فارغ، أفكاره تائهة، مغلوب على أمره، لا ينفع في ريادة ولا يُعتمَد عليه في ساقة، جبان مفتون فرَّار غرَّار .
يوم يمانٍ إذا لاقاه ذو يمنٍ *** وإن تلقَّ معديًّا فعدنان
مثل هذا كالشجرة لا جذور لها ولا ثمرة، لا تثبت أمام الريح، ولا تقوى على مقاومة الآفات . أو كالبناء بلا أساس، سرعان ما يخر سقفه على من فيه. فهو قلق بائس، متردد، تعصف به الفتن، تدمره المِحَن، إن عزلته لم يرعوِ، إن خاطبته لم يفهم.
ومن البلية عدل من لا يرعوي *** عن غيِّه وخطاب من لا يفهم
إن المؤمن ليقف شامخًا وهو يرى مثل هذا الصنف البائس، وقد غرق في شهواته الهابطة وفي نزواته الخليعة السافلة يَعُبُّ منها، لكنها حكمة الله البالغة التي أرادت أن يقف الإيمان مُجرَّدًا من الزينة والطلاء، عاطلاً عن عوامل الإغراء، لا هتاف لذة، ولا دغدغة شهوة، وإنما هو الجهد ليقبل عليه من يقبل وهو على يقين أنه يريد الله والدار الآخرة، ولينصرف عنه من يبتغي المطامع والمنافع الدنيوية، ومن يشتهي الزينة ويطلب المتاع؛ ليحيا من حيَّ عن بينه ويهلك من هلك عن بينة
هاهو أحد الساقطين الذين ما بنوا أنفسهم بنوها على شفا جرف هار فانهار بهم إنه [جبلة ملك غسان]، أسلم وجاء <المدينة> في موكب عظيم بحاشيته وجنده، فرح المسلمون بإسلامه كثيرًا، فخرجوا للنظر فيه وفي موكبه، فإذا الخيول معقودة أذنابها، وسلاسل الذهب في أعناقها، وعلى رأسه التاج المُرَصَّع بالجوهر، وذهب إلى <مكة> وجعل يطوف بالبيت، وبينما هو يطوف إذ وطئ رجل فزاري إزاره فلطم جبلةُ الفزاري فهشم أنفه، فشكاه الفزاريُ إلى عمر–رضي الله عنه وأرضاه- فبعث عمر إلى جبلة فأتاه، فقال له عمر: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد وطأ إزاري فلطمته، ولولا حرمتك لضربت ما بين عينيه بالسيف، فقال عمر: قد أقررت على نفسك بما فعلت؛ فإما أن تُرضي الرجل، وإلا أن أقتص له منك بهشم أنفك كما فعلت به. قال: وكيف ذلك وهو سوقة، وأنا ملك؟ قال عمر -رضي الله عنه-: الإسلام سوَّى بينكما فلم يرَ جبلة مخرجًا إلا بإعطائه مهلة، طلب مهلة إلى الغد ليلوذ بالفرار ليلاً؛ ويرتدَّ عن دينه، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه، سقط عند أول امتحان؛ لأن البناء لم يؤسَّس على تقوى، وإنما أُسِّس على شفا جُرُفٍ هارٍ.
كيف يقوى على العواصف غرس *** جذره في ترابه موءود
أحبتي في الله، بعد الذي سمعتم لعلكم أدركتم أن الحاجة العظيمة ماسَّة إلى بناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء.
إِي والله لذلك ولعدة أسباب لعلنا أن نقف عليها:
أولاً: لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن –لا ريب- إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد –بالطبع- لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.
ثانيًا: لكثرة حوادث النكوس على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ثالثًا: لأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا)
رابعًا: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.
خامسًا: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو أعجز وأقل من أن يبني غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه -كما قيل-؛ لذلك كله كان لابد من الوقوف على بعض العوامل المهمة في بناء النفس بناءً مؤسَّسًا على تقوى من الله ورضوان؛ فها هي بين أيديكم -الآن- بعض العوامل غير مرتبة، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً
من عوامل بناء النفس: التقرب إلى الله -عز وجل وعلا- بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله -جل وعلا-، وعلى رأس هذه الفرائض توحيد الله -جلا وعلا- وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعًا عظيمًا لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله -تبارك وتعالى-، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء. يقول -صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، كما في البخاري-: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأًعيذنَّه" ومن فضل الله –جل وعلا- علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار. لاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكَلُّ ولا تَسْأَمُ. لكن علينا أن ننتبه في هذه القضية إلى أمور:
أولاً: الحذر من تحول العبادة إلى عادة؛ لأن البعض يأْلَف بعض العبادات حتى يفقد حلاوتها ولذَّتها؛ فلذلك تراه لا يستشعر أجرها، فتصبح العبادة حركة آلية لا أثر لها في سَمْتٍ أو قول أو عمل أو بناء.
ثانيًا: عدم الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض؛ لأن البعض يُخطئ، فيهتم بالأدنى على حساب الأعلى –وما في العبادات دنيٌّ-؛ فيقوم الليل -مثلاً- ثم ينام عن صلاة الفجر، فليكن لك من كل عبادة نصيب، وعلى حسب الأهمية؛ كالنحلة تجمع الرحيق من كل الزهور، ثم تخرجه عسلاً مصفًّى شهيًا سائغًا للآكلين.
ثالثاً: إذا تعارض واجب ومستحب؛ فالواجب مقدَّم ولا شك.
رابعًا: التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ فالقلوب هي محل الفكر، ومحل التدبُّر، ومحل العلم، والقلب مع الجوارح –كما تعلمون- كالملك مع الجنود "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب" من عوامل بناء النفس المجاهدة، كل فكرة لا يصحبها مجاهدة فهي في طريقها إلى الاضمحلال والذوبان والزوال، يقول الله -جل وعلا-:(وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فجاهد النفس والشيطان واعصهما *** وإن هما محَّضاك النصح فاتهمِ
إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه طاقة عالية متمثلة في هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي؛ للتغلب على تلك المكاره التي حفَّت بذلك المطلب العالي، ألا وهو الجنة. نسأل الله من فضله. مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله –عز وجل-، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم هاهو [ثابت البناني] –عليه رحمة الله- يقول: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها. لا شك والله أن هذا نتيجة مجاهدة وصل بها إلى الهداية من الله –جل وعلا-. ويقال [للإمام أحمد]: يا إمام متى الراحة؟ فيقول –وهو يدعو إلى المجاهدة-: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة . إِي والله إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها. وأعظم المجاهدة –يا أيها الأحبة- مجاهدة النيات "فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُورًا) يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثورًا مع أنهم كانوا يصلون مع المصليين، ويصومون مع الصائمين، ولهم من الليل مثل ما للمصليين وما للمخلصين، لكنهم إذا خلَوْا بمحارم الله انتهكوها؛ أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد نُسَّاك، لكن إذا خلَوْ ظنوا أن الله لا يعلم كثيرًا مما يعلمون؛ فالنيةَ النية.
هاهو –صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى <تبوك> من <المدينة> بجيش قوامه ثلاثون ألفًا في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، وقت عسرة ووقت شدة، حرٌّ ودنوّ ثمار المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر –رضي الله عنه- ليقول: لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره، فينحره فيعتصر فرثه ثم يشربه الحال هذا بعضه. وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد هذا التعب العظيم قال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، ولا وطئتم موطئًا يغيظ الكفار إلا كانوا معكم، حبسهم العذر قالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهم بالمدينة؟! قال: نعم، وهم بالمدينة" إنهم –ولاشك- أقوام حسَّنوا نيَّاتهم. جاءوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقولون : يا رسول الله زادٌ وراحلة، لا نملك ذلك، فيقول –صلى الله عليه وسلم -: "لا زاد ولا راحلة" (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) فبحسن النية بلغوا ما بلغ أولئك الذين سمعتم ما حصل لهم، ولذلك يقول الإمام أحمد موصيًا ابنه: يا بني انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
ثم اعلم -يا أخي الحبيب- أن للإخلاص علامات. اعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك، وجاهدها وهي على سبيل المثال لا الحصر،
أولاً : استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همًّا واحدًا، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أشهد الله أني أمقتك على ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمت من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب.
ثانيًا: نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم همًا واحدًا؛، هل تقبل هذا العمل أم لم يتقبل؟ و(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
ثالثاً: الحب في الله. حبًا يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله.
رابعًا: إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفًا من دواعي السُّمْعَة والرياء؛ فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل.
لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ما جزاؤهم؟ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبدًا، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبَرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفًا من دواعي السمعة والرياء. يصوم أحدهم يومًا، ويفطر يومًا لمدة أربعين سنة لا يعلم أهله به، كان حمَّالاً -يعمل حمالاً- يحمل غداءه معه في الصباح، فيتصدق به في الطريق على أحد المساكين، ويرجع في المساء ليتعشى مع أهله؛ فذاك إفطاره وهو عشاؤهم. بل إن [ابن المبارك] -عليه رحمة الله- كان يجاهد في سبيل الله، وكان يضع اللثام على وجهه لئلا يُعرف خوفًا على نيته أن يشوبها شائب من الشوائب. هل عاش أولئك يومًا من الدهر على وجه الأرض. إي والله .. اللهم إنا نشهدك أنَّا نحبهم، اللهم احشرنا وإياهم في زمرة الصالحين. إيمانهم بالله لا يتزعزع، وضميرهم في الله لا يتزلزل.
قد أرخصوا في الله كل عزيزة *** ثم استقلُّوا فيه كل مُذلِّل
ليست مبادئهم حديث مُنمِّق *** زيف اللسان ولا كلام مجمِّلِ
صارت مبادئهم وصارت خلفها *** أفعالهم في موكب متمثِّل
حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا ***في حملهن على الرماح الدُّبَّل
الموت للجبناء منحدر وللهمم الصعود شتان ما بين الثعالب في المعامع والأسود
من عوامل بناء النفس محاسبتها محاسبة دقيقة؛ فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، إلى اللذات، إلى الهوى؛ فلابد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير. الأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ما دمنا نعلم ذلك، فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع. لقد عرف السلف الصالح أهمية ذلك، فحققوها في أنفسهم، هاهو أحدهم – كما أورد [ابن أبي الدنيا] بسنده- جلس مع نفسه ذات يوم محاسبًا في آخر عمره، نظر وقلَّب وفكر وقدر؛ فإذا عمره ستون عامًا، حسب أيامها فإذا هي تربو على واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فصرخ وقال: يا ويلتاه، أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة، هذا إن كان ذنب واحد؛ فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ ثم خرَّ مغشيًا عليه. فالمحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشية الله. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ)
والمحاسبة على أقسام؛ محاسبة قبل العمل؛ قف عند أول همِّك أو إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ أقدم وأخلص وجِدَّ وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن "فمن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومحاسبة أثناء العمل؛ هل أنت مخلص صادق أم مراءٍ ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله -عز وجل- ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه. ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع وحق الله – كما تعلمون- في الطاعة ستة أمور:
أولاً: الإخلاص في العمل، ثم النصيحة لله فيه، ثم متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
ثم شهود مشهد الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، ثم شهود مِنَّةِ الله عليك في التوفيق لأدائه، ثم شهود تقصيرك فيه بعد ذلك كله.
أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلها؟ ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه.
ومما يعين على معرفة عيوب النفس أمور: ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الأخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله –سبحانه وتعالى- آمنًا. والمؤمن للمؤمن –كما تعلمون- كاليدين؛ تغسِّل إحداهما الأخرى، وقد لا يُقلع الوسخ أحيانًا إلاَّ بنوع من الخشونة. لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة بعد ذلك ما يحمد به ذلك التخشين؛ فاصبر على مرارة التخشين بتعريفك بعيوبك من إخوانك، لتحمد ذلك ولو بعد حين. ومما يعين على معرفة العيوب، التأمل في النفس بإنصاف وتجرد؛ فمن تأمل في نفسه بإنصاف وتجرُّد عرف عيوبها، فإن عدمت عالمًا، وإن عدمت قرينًا صالحًا ولم تتأمل في نفسك بإنصاف، وإن شاء الله لا يعدم هؤلاء؛ فابحث على عيوبك عند أعدائك، واستفد منهم؛ فالحكمة ضالتك.
يتبع ...