______________________________ هجومات الشمال القسنطيني إن ثورة التحرير الجزائرية ثورة كلية، أعطت لحرية الإنسان وكرامته كل معانيهما، وقد جسد انتصارها ،أسلوبا فعالا وقيما جديدة لرفع مستوى النضال العربي في مواجهة الهيمنة الغربية ككل،وأججت طموح العرب وإيمانهم بقوميتهم ووحدتهم وألهمتهم المستوى اللائق بإمكانياتهم العديدة التي لم يجرؤوا على تفجيرها كلها وإطلاقها من عقالها حينها، وأحرجتهم في الاختيار بين التنازل عن ادعاءاتهم وآمالهم العريضة ، وبين إن يؤيدوها ويضمنوا جديتها بالبذل والعمل والجهاد،وكان على العرب إن يقاوموا الخوف بالجرأة، وأن يدفعوا الخطر بالتضامن، تضامن الخائف على بقاء أمته وهذا ما فعله المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر أيضا عندما أمم القناة وثارت ثائرة الوحش الاستعماري وشهوته لإراقة الدم العربي، وجعل بذلك العرب في شتى أقطارهم يذكرون أهمية تلك اللحظات الخصبة ، لحظات الحياة الخطرة التي تصقل قريحة الشعوب، وتصنع المعجزات.
تعد
أحداث الشمال القسنطيني منعطفا هاما في مسار ثورة نوفمبر ,1954 بما ترتب
عنها من نتائج من الناحية العسكرية والسياسية، سواء داخليا، بقطع الطريق
أمام المتشككين والمترددين، وكذا ادعاءات فرنسا أن ما وقع، بعد نوفمبر، هو
عمل متمردين وقُطاع طرق ولصوص، فجاءت هذه الأحداث لقطع دابر هذا الادعاء
من ناحية،
والبرهنة للعالم، أن ما يجري في الجزائر من أحداث، إنما هو >ثورة
شعبية< عارمة، يجب أن تصنف ضمن حركات التحرر، وبذلك، تم فعلا، كسر
الحصار الذي حاولت فرنسا فرضه على الجزائر دوليا·
إرتباط
هذه الأحداث، إستراتيجيا، بالاحتياجات الداخلية أولا، ومنها فك الحصار على
منطقة الأوراس التي حاول جنرالات فرنسا خنق الثورة بها >التمرد يدفن
حيث ولد<·
رغم
أن ما كانت تعتبره وتسميه فرنسا ''تمردا''، لم يولد في الأوراس فقط، وهو
واحد من عناصر قوة هذه الثورة التي ولدت ذات ليلة من أول نوفمبر ,1954
وأعلن عنها بالعديد من الهجومات شملت جميع ربوع الجزائر·
لكن
ـ ربما ـ أن الثورة عرفت هدوءا نسبيا في بعض المناطق، بعد الشهور الأولى
لنقص الإمكانيات، وهو ما جعل استراتيجيو فرنسا الإستعمارية، يستغلون هذا
الهدوء النسبي في الضغط على الأوراس وإجهاض الثورة، وهي في عامها الأول·
وهكذا،
كان تلقي زيغوت يوسف رسائل من شيحاني بشير، يدعوه فيها لتخفيف الضغط على
الأوراس، أن شرع في التفكير في الرد المناسب، ويفهم من المعاصرين للأحداث
أن زيغوت، كان يريد أن يعطي لهذا الهجوم بعدا وطنيا، أي أن يتم الهجوم على
المستوى الوطني ولمدة أسبوع، لكن زيغوت، رحمه الله، أدرك ثقل مثل هذا
القرار وما يترتب عنه، في فترة لم تكن فيها ظروف الثورة تسمح بعمل بهذا
الحجم على المستوى الوطني، لذلك، قرر التركيز على المناطق التي يتولى
مسؤوليتها، لكن في نفس الوقت، بعمل مركز وتنظيم دقيق، حتى تكون الضربة
موجعة وردا شافيا على محاولات ''سوستيل'' عزل الثورة عن الجماهير، من
ناحية، وبعث الثقة في نفوس المجاهدين وبث الرعب في نفوس المعمرين، فضلا عن
تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، من ناحية أخرى·
لتحقيق
كل هذه الأهداف مجتمعة، لم يكن الأمر يسيرا، وكان يتطلب تحضيرا دقيقا،
وعيون الفرنسيين لا تنام منذ نوفمبر، وزيغوت، بدوره، كان يدرك ثقل المهمة
التي كانت تشكل منعطفا بالنسبة للثورة، ولا يريد المغامرة، وهو ما عبر عنه
بقوله ''اليوم، أصبحت القضية، قضية موت أو حياة'' وقد جعل من مسؤولياته،
في هذا اليوم، تتجاوز مسؤوليات يوم الفاتح نوفمبر، ''ففي نوفمبر، كانت
مسؤولياتنا تنحصر في تحرير الوطن·· ولكن، اليوم، وجب علينا، أن نختار بين
إذاعة صوت كفاحنا·· أو نبرهن عن عجزنا في قيادة الشعب إلى الإستقلال''·
كان
زيغوت يوسف يدرك، فعلا، ثقل المسؤولية، لذلك، رغم أن المبادرة، كانت
مبادرته، إلا أنه أراد أن يشرك، من معه من الرفاق، في اتخاذ القرارات،
فالتقى بالرفاق في >كدية داود< بجبل الزمان، في الثالث والعشرين من
شهر جويلية، وكان من بين الحاضرين عبد الله بن طوبال، عمار بن عودة، صالح
بوبنيدر·· وقد قدم أثناء اللقاء ''خطة عمل''، تم فيها تحديد ضريبة الدم
لإنقاذ الثورة، كما تم تحديد تاريخ 20 أوت 1955 وتوقيت منتصف النهار·
ويبدو
أن زيغود يوسف قدّر الأشياء حق قدرها، ودرس كل صغيرة وكبيرة، ولم يترك
للصدفة شيئا، فإضافة إلى اختيار يوم السبت، باعتباره يوم عطلة يسرح فيه
الجنود، كان يوم السبت، أيضا، يوم ''سوق'' في مدينة سكيكدة، مما يسهل تسلل
جنود جيش التحرير إلى المدينة، واختيار منتصف النهار، فترة قيلولة وفترة
انشغال الجنود الفرنسيين والشرطة والدرك بالخروج للغداء، وكذا كثرة
الحركة، مما يعطي للإنتفاضة دويا، فضلا عن ذلك، تم تحديد كل المدن
والمواقع التي تكون مواقع هجوم·
ومما
يدل على الرؤية الواضحة عند قيادة الانتفاضة، كما سماها ''زيغوت يوسف''،
هجوم الشمال القسنطيني، كما هو متعارف عليهم اليوم، أنهم توقعوا حتى رد
الفعل، وبناء عليه، تم بناء خطة الهجوم، إذ تقرر أن يدوم الهجوم ثلاثة
أيام بدلا من سبعة، إذا كان الهجوم على المستوى الوطني، كما كان ينوي
زيغوت يوسف، لهذا، تقرر أن يكون الهجوم في اليوم الأول (20 أوت) على
الأهداف المحددة في المدن المعنية على أن يكون اليوم الثاني والثالث لنصب
الكمائن في الطرقات، لضرب قوات العدو، لأن مخططي هذه الإنتفاضة توقعوا أن
يجلب العدو قوات كبيرة، ليحمي المدن ويدعم بها مراكزه العسكرية، وكانت هذه
الكمائن أفيد، كثيرا، بما بثته من رعب في صفوف قوات العدو، التي لم تكن
تتوقع تلك الضربات من ناحية، كما كانت غنائم جيش التحرير من الأسلحة، إثر
هذه الاشتباكات، كبيرة·
كان
المجاهدون، قد اختاروا حوالي تسعة وثلاثين (39) هدفا في قطاع الشمال
القسنطيني، من سكيكدة والقل شمالا، حتى عزابة والمليلة وقالمة جنوبا،
مرورا بقسنطينة والخروب وعين عبيد·· وقد استهدفت، في هذه المدينة، المنشآت
العسكرية والاقتصادية والموانىء والسكك الحديدية، وطرق ووسائل الاتصال،
وكذا مراكز الشرطة والدرك الوطني وضِيَع المعمرين·
نلاحظ
أن الأهداف المرسومة كانت كبيرة وعظيمة فعلا، لكن الإمكانات كانت محدودة،
فكان أول مشكل طرح هو مسألة توفير السلاح للمجاهدين والمتطوعين (المسبلين)
الذين يفهم، من المعاصرين، أن أعدادهم كانت كبيرة، تفوق التوقعات، ومما
زاد في صعوبة الحصول على الأسلحة أن السلطات الفرنسية كانت قد شددت
رقابتها وكثفت عمليات التفتيش، بحثا عن الأسلحة لدى المواطنين·
ومن
أجل التغلب على تلك الصعوبات تم الإستعانة ببعض المواطنين، من ذوي الخبرة
في صنع القنابل اليدوية والقنابل الحارقة، رغم القيود التي فرضها
الفرنسيون حتى على بيع البنزين، كما تمت دراسة مراكز العدو بدقة (مواقع
الثكنات، عدد القوات، والعتاد الحربي وحتى الجوانب الاستراتيجية للموقع..)
تفاديا لكل مفاجأة، فكانت كل هذه التدابير والاحتياطات من ناحية، والإيمان
بالقضية، وراء نجاح الهجوم، فرغم بساطة وسائله، إلا أنها، تمكنت من دك
مواقع العدو، وضرب منشآته الحساسة، وخلط خططه·
وقد
تمت عملية تحضير المجاهدين والمسبلين بعيدا عن أعين الاستعمار، وتم تشكيل
أفواج الهجوم وتوزيع الأسلحة رغم بساطتها وإطلاعهم على الأهداف المحددة
بدقة وسرية متناهية، ولم تطلع الأفواج المعنية بالهجوم على الأهداف إلى
غاية يوم 19 أوت .1955
كان
يوم 20 أوت يوما مشؤوما بالنسبة للقوات الاستعمارية حيث تعرضت مراكز
الدرك، محافظات الشرطة، الثكنات العسكرية، البلديات، والمحاكم لهجومات
كاسحة في نفس التوقيت تقريبا، في مدن: سكيكدة، القل، الحروش، قسنطينة،
الخروب، عين عبيد·· هذا في اليوم الأول للهجوم، وقد جاءت الكمائن التي
نصبت في اليوم التالي بنتائجها، بما تم غنمه من أسلحة، وبذلك، كان لهذه
الانتفاضة، ما دام الشعب قد انتفض فعلا، وجعل الكثير من المترددين، يقلعون
عن التردد، نتائج هامة داخليا وخارجيا، داخليا من خلال إعطاء دفع للثورة
بالتفاف الشعب حولها، وحتى نتبين أهمية هذا اليوم، نقول أن بعض الباحثين
الفرنسيين أنفسهم، اعتبروه أول هجوم حقيقي، يدخل الثورة مرحلتها النشيطة،
بينما تقول باحثة أمريكية عنه: ''أول هجوم موسع وشامل، يكشف عن إعداد دقيق
ووجود قوات نظامية هامة، إنه يمثل منعرجا لحرب التحرير''·
كان
فعلا، هذا اليوم منعرجا هاما، لم يتمكن، فقط من فك الحصار على الأوراس،
وإنما دفع بالثورة إلى نقطة اللارجوع، واتسع نطاقها وحطم الحصار الإعلامي
المفروض على الجزائر·
كان
رد فعل فرنسا، التي فقدت أعصابها، وحشيا، فلم تعد تفرق بين المواطن
والمجاهد، فيكفي أن نشير إلى مجزرة الملعب البلدي بسكيكدة ومشتة الزفزاف،
ما يدل على الوحشية التي واجهت بها الأحداث، فضلا عن قصف الطيران للمداشر
والقرى دون تمييز، وإقامة المناطق المحرمة، وعلى الصعيد السياسي، كان لهذه
الأحداث صدى في المحافل الدولية، وبدأت الصحافة تتعرض للقضية الجزائرية،
التي بدأت تكسب مؤيدين لها، حتى داخل فرنسا·
وبذلك،
تمكن الشهيد زيغوت يوسف، رحمه الله، من فك الأغلال عن الثورة التي كسرت
أسطورة >الجيش الذي لا يقهر<، وأصبحت نموذجا، يقتدى به من لدى
الشعوب المتطلعة للحرية والإستقلال·