المقطع الثاني ليس مجاناً أن يَصْدُقني القولَ أحدٌ لو أفضيت له بأن ذلك المشهد الرهيب الذي لا تماثله إلا مشاهد العالم الآخر الذي تخبرنا به الرسائل السماوية، لم يروعني كبير ترويع مقارنةً بما هالني وأذهلني ذلك الفقيه الريفي الحضري بتحصيله الواسع للتراث الأدبي العربي وثقافتهم وأساطيرهم، ولكن هل فِقه ولداي المراهقان وأفادا علماً مما تفوه به الشيخ شيئاً من الأدب واللغة يسيراً؟... جاب الشيخ بلداناً مشرقيةً ومغربية وما مر بمدينة إلا وعرَّج على أشهر علمائها وأدبائها وفقهائها، وما خرج من مدينة إلا وأجازه وزكاه علماؤها، لكنه لا يحمل أية شهادة مدرسية أو جامعية، وهو مما يتعارض وطبيعة الوظيف العمومي في بلده، طرقت شهرته الفقهية وزارة العدل التي اقترحت عليه قاضياً شرعياً فرفض خوفاً من أن يكون من القاضيين، حاول أن يحصل دون طائل على شهادة تعادل علمه لعله يجد وظيفة يسد بها رمقه بطريقة شريفة، رثى محسنو حيه لحاله وأقاموه إماماً، لكن مديرية الشؤون الدينية رفضته للسبب نفسه، لم يبق لديه إلا سبيل واحد للاقتيات، أن يعلم صبية هذا الحي شيئاً مما تيسر من القرآن، وهي مهنة كافية لإعاشة عائلة صغيرة لا تتعدى فردين. [size=12]ألا حبذا لو دام خطاب الفقيه على نفس حال ما كان عليه، بيد أن خطابه، كما عرف الجميع من الحاضرين، اتجه وجهة أخرى ـ فاضطرني إلى هجر الدار على عجل، وأنا لا أكاد ألوي على شيء، هل يَصْدُقَني القولَ أحدٌ لو اعترفت له، بأني كنتُ أحثُّ رجليَّ بكل قوة إلى الأمام، وهما تأبيان إلا الرجوع القهقرى، كأنهما سُمِّرتا تسميراً أو شدتا إلى... [size=12]وما أدراه؟ ربما لم يكن الموقف بهذا الحجم من الهول الذي تخيله!... ولكن، يبدو أن الأمر قد خيَّل إليه هكذا على الأقل، على نحو لا تنفع معه شجاعة في مثل هذه الأحوال التراجيدية، وإلا فكيف وجد نفسه بعد دقائق معدودة يجوب بتيه وكبرياء مع سوء نية في كل من كان حوله من المتجولين والمتسوقين وحتى الباعة والشرطة؟!.. [size=12]جعل يتأمل سائحاً في أزقة ضيقة لمدينة تلمسان العتيقة، وكأنه يراها لأول مرة، ما من شك أنه لا يستطيع أن يعدد الجولات السابقة، ولكنه يشعر لأول وهلة بنكهة سياحية ذكرته أمجاد الرومان والموحدين والزيانيين،... [size=12]ومن يدري؟... لعل قصده لهذه الأزقة التي أنسته كل ماهو حداثي وعصري من صناعة وعمران لم يكن من باب المصادفة، لماذا تحاشى الساحة العمومية الوحيدة لهذه المدينة؟ لاشك أن شيئاً ماكان يساوره، الناس في هذه الأزقة الشعبية الضيقة ناس بسطاء طيبون، راضون بما قضى لهم القدر من نسيان وفقر وحرمان، خلافاً لأولئك الذاهبين والعائدين صفوفاً صفوفاً، وجماعات جماعات طوال الصباح في تلك الساحة العمومية التي تتوسط البلدية القديمة والمسجد الكبير، فهؤلاء طبقات متمايزة من كل النماذج البشرية، غير أنها أشبه ما تكون بمرج البحرين، منها ما هو عذب فرات، ومنها ما هو ملح أجاج، كل شيء مهم قد يتم في هذه الساحة من صفقات تجارية، من زواج وطلاق، من تعيينات في مناصب، من عزل لمسؤولين، من رفض أو قبول لما يطرأ في فضاء هذه المدينة من جديد،... [size=12]أين ذلك كله من هذه الوجوه الطيبة من التجار والحرفيين والمتقاعدين أو المرضى المزمنين السابحين في فناجينهم وكؤوسهم، والمنتشين سجائرهم التي يمتصون، سَعُوطهم الذي يشتمون؟.. [size=12]لم يعد اليوم مهماً كثيراً أن يكون الشيء جميلاً أو دميماً أو حتى يؤول الخبيث إلى الطيب، هذه الوجوه وتلك سيان، لم تلهه في لحظة واحدة كابوس ذلك العالم المرعب الذي بقدر ما أفاده وعلمه أشياء كان مغفلاً بشأنها، أمطره شتماً وذماً، وبلغ به التطاول أوجه حين طفق يكشف جانباً من حياته العامة وحتى الخاصة، المرء سواء كان في وعي أم في عالم اللاشعور يشق عليه أن يقبل بصدر رحب ما يوجه إليه من استفزازات، صريحة كانت أم تلميحات، ثم ماذا يكون موقفه مع نورة التي أقسم لها غير ما مرة بأنه لا يخونها حتى فيما يرى النائم في منامه؟ يبدو أنها كانت مشمئزة من بعض الأسماء التي لاكها لسانه، وربما لم تسمع شيئاً هذا ما ستأتي به الساعات والأيام القادمة، بعدما تهدأ الأوضاع، وتعود المياه إلى مجاريها.. [size=12]يعتبه على التفريط فيما أهمله من آلات زمر، ويزعم له أنه لو كان اليوم زماراً لكان لحياته معنى أفضل، ويذكره بـ"الشبابة" ذات الثقب المستديرة المختلفة،... هو تذكرها بعد عقود من السنين... سيسأل عن معناها اللغوي الشيخ الفقيه في أول لقاء يجمعهما في غير هذا اليوم، هو رجل علامة حفاظة لما أهملته المعاجم، وألقي به من كلمات عربية قديمة في المتحف، شيخنا الفاضل ليس له ولد يشغله، ولا تجارة كاسدة تؤرقه، ولا زوجة صغيرة جميلة تملأ عليه جوه،... لكن عالمه الصغير عصفور بين يديه، تصوروا أنه حتى هذه الساعة لم ييأس بعد من أن يرزق من زوجه التي أنافت على الخمسين مولوداً، هو وإن اشتعل رأسه شيباً، وبلغ من الكبر عتيَّاً، فإن صحته جيدة وحالته النفسية قوية، إذا ما دخل المسجد واستوى جالساً قبالة الكاتبيين، وأمسك المجلد حسبته جلاد سجون، وإذا ما عاد إلى الدار، إن لم يأخذه كريم، ألقى عصاه العقفاء، واسترخى قليلاً، ثم ينكب على الحفظ والمطالعة دون أن تعلو عينيه نظارة طبية.. [size=12]لقد ملأ عليك الدنيا هذا الشيخ، حتى إنه لبلغت بك الجرأة الأدبية في كشف جوانب تخص طرفاً من حياته، ألا تترك هذا الفقيه وشأنه، وأنت تعلم أن الحديث مباح عن كل مليك ومملوك، إلا عن الفقهاء والأولياء؟ فهم علية القوم وقضاتهم، لا كلمة لأحد تعلو كلمتهم، حتى وإن كانت أعاجيب هذا الشيخ لم تنته، لأنه ليس فقيهاً كسائر الفقهاء.. [size=12]خف الضجيج والعجيج في شوارع المدينة الرئيسة وأزقتها الشعبية إلى إشعار قريب، ماكان القوم أحوج إلى هذا كله لو غيروا نظام عملهم، ولكن الناس عندنا إذا شبوا على شيء...... مالك أنت ولهؤلاء؟.. حسبك مصائبُك... [size=12]يجب أن أعود، أتمنى ألا أجد ذلك الفقيه هناك، وإلا فسيكون لي معه حديث لا يسره، بقدر ما أذهلتني بلاغته وثقافته، حتى إني تمنيتُ لو كان أستاذاً لولديّ في مادة اللغة العربية لعلهما يقبلان عليها قليلاً ويتعلقان بسحرها وجمالها، أغضبني تصرفه السريع لولا لطف من الله... [size=12]لست الوحيد الذي اتهمه عالم اللا شعور بالغفلة والبلاهة، نورة أيضاً زوجتي العزيزة بلهاء مغفلة، صدق من قال: "ما يَتْزَوْجو حتى يَتْشَابْهوُ". أما ذلك الشيخ رغم تسرعه، فلم يقم إلا بما تمليه عليه وظيفته. [size=12]هاهي ذي المقاهي فرغت من زبائنها إلا من أفاقين وعابري سبيل، عادة ما يأتون من ديار دانية ونائية لزيارة الولي الصالح "سيدي بومدين"، الذي لا يبعد عن هذه الأزقة الشعبية العتيقة إلا ببضع مئات من الأمتار. [size=12]يجب أن أعود، لم تعد لي حجة بالبقاء خارج المنزل، أتمنى.... وإلاَّ... لن يكون بوسع نورة أن تعيرني بالبلاهة، وتنعتني بالسذاجة بعد اليوم، وقعت في الفخ نفسه، أليست المرأة نصف الرجل؟.. يجب أن تتقاسم معه فضائله ورذائله، محاسنه ومساويه، كيف سمحت لها بلاهتها بإحضار الشيخ من أجل غيبوبة قد تعتري الملايين غيري من البشر؟... أم أضحى كل ما يحدث من حماقة وقلق في هذا الكون إلا وأنت واجد وراءه آثاراً لامرأة؟ ألم تكن جدتنا الأولى، سامحها الله، وراء ما فيه البشرية كلها من متاعب وهموم عالم مقهور، وآخر مجهول؟؟.. [size=12]كان بإمكان السيدة أن تتصرف بألف طريق غير ما أقدمت عليه... منيرة بعيدة، والحمد لله، وإلا تحولت تلك الغيبوبة إلى فاجعة ربما لا تحمد عقباها، ... هي سيدة جامعية، بيدها مفتاح حاضري ومستقبلي، فكيف تهوي إلى هذا الحضيض من التفكير؟.. [size=12]لم تعد رجلاي مشدودتين إلي.... ولكنهما لا تبرحان مُثاقلتين ما زلت أشعر بدواخ مركز، وصداع ينخُسُني فيؤلمني أشد الإيلام، حتى وإن كانت الحمى تراجعت كثيراً، والعرق جف نهائياً، وهذه هي الأعراض التي تهم ناساً في حالة مثل حالتي... [size=12]لا أقل أي تاكسي، أعود راجلاً، لأروض عضلاتي، ويأخذ جسمي مظهراً عادياً،هذا يجعلني أثبت لكل من أضحى يشفق عليَّ ويرثي لحالي بأن كل شيء على ما يرام، في مقابل هذا لن تراني أنبس ببنت شفة لأعتب على نورة،... والواقع أني لا أعرف حتى الآن لماذا تصرفت ذلك التصرف، والشعوذة آخر ما يلجأ إليه إنسان نّوَّره علمه بنقضها وبطلانها؟.. هل تصرفت في منامي فعلاً تصرفاً جنونياً، فأخفقت أمامه أنوار العلم، وانسدت في وجهه كل حيل العلاج، ولم يبق لها حيلة غير إحضار الفقيه؟.. كل ما أعرف عنها أنها سيدة متطورة ومتشبعة بثقافة غربية، لكنها شديدة الإعجاب بالعادات والتقاليد والطقوس البلدية، بيد أن ما هو راسخ في ذهني حتى هذه اللحظة أنها لا تؤمن إطلاقاً بهذه "الخزعبلات"، إذاً، ما الذي وسوس لها في ظرف قصير من غيبوبتي لتغير موقفها وتضحي مؤمنة بما باتت تكفر به؟... [size=12]حتى هؤلاء الأفاقيون جعلوا يفارقون هذه الكراسي واحداً واحداً بحثاً عن شواء أومطعم، وها هو ذا "المقهجي" وخادماه النشيطان البشوشان شرعوا يُهرِقون المياه التي بدأت تنساب رويداً رويداً أسفل أرجل الكراسي وقوائم الطاولات،.... فأنا لست زبوناً حديث العهد عندهم، ولكن على الفاهم أن يفهم، لا مناص إذاً من أن أغادر هذا المقهى على الأقل... [size=12]يجب أن أعود، إني نسيت شيئاً ليس أقل حيرة مما أنا فيه، لم أحسب له حسابه إطلاقاً، لم يخطر ببالي قط، أخشى أن تزيد نورة قلقاً مضاعفاً عليَّ، ف |