المقطع الثالث
ما كان سمير ليتوقع يوماً من نورة أن تعرض عليه أمراً أكثر مرارة ودهشة مما عرضت عليه، أن تذهب إلى العمل في الصحراء، ولربما في أقصى نقطة جنوبية، هل بادرته نورة الطبيبة التي يشهد لها الجميع بكفاءتها، وهي في كامل قواها النفسية والعقلية أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ارتعاشة نسوية عاطفية إشفاقاً على ما يتعرض له أطفال أبرياء، ونساء حوامل، ورجال ملدوغون وملسوعون، من مخاطر وحوادث يومية بسبب نقص الكفاءات الطبية؟ إن تفكيراً في عمل مثل هذا أكثر من أن يكون عناداً أو شفقة. هل نسيت أم تناست أن الصحراء التي تحلم بها قارة مهجورة، وأن حياة شماليةٍ كنورة لا تنفك تنعم بجمال أخاذ، وبنية أنثوية جذابة تستهوي الرهبان والأئمة، حماقة وجنون؟.. هل يتحالف معه سي علي ليجدول لها "يَقْشة"1 عسى أن ترعوي عن غوايتها؟
سمير مقتنع بأن نورة ليست على صواب فأية مصلحة أو فائدة يجنيها من الحماقات التي تفكر فيها؟ هو لم ينس لها إطلاقاً تمردها وتضحيتها وإلا لما تقارنا وألفا هذا العش الصغير السعيد؟ هو يعلم أن قبوله أو اعتراضه بالنسبة لنورة سيان، ليس فقط لأن نورة صلدة وقوية الشخصية أو لها أبعاد أخرى غير التي أفضت بها، ولكن سميراً نفسه متعلق بها على الرغم من سنه المتقدم، أصبح الرجل يخجل حتى من مواجهة نظرتها الحادة إليه، وغدا يجاملها حتى فيما لا يرضاه من بعض تصرفاتها، مضى ذلك الوقت الذي كان فيه سمير يقتفي كل حركة من حركاتها غيرة ورغبة في الهيمنة الرجولية عليها. لكن لم هذا كله لم تعد نورة تلك الفتاة الساذجة الخالية من التجارب، فهي ذات ثقة عمياء بسلوكاتها خارج حياتها الزوجية، وفلسفتها نحو الناس أن لكل شيء في هذه الدنيا خطين لا ثالث لهما: أحمر وأخضر، وقوتها الخلاقة تكمن في ذكائها وحذقها في التعامل معهما.
[size=12]لم يرفع سمير إلى جوفه لقمة واحدة مما تركت له نورة على المائدة التي غادرتها على عجل إلى المستشفى،.. كان كلما رمق أحداً من ولديه متجهاً قربه تكلف لقمة أو لقمتين، وبقي المشهد نفسه يتكرر معه إلى أن أتى على الصحن كله دون أن يحس بلذة ما أكل،..
[size=12]رباه! سأكون أنا مع هذين الولدين البريئين أول ضحية لمغامرتها في تلك المفاوز التي لا أبعاد لها، هي لا تختلف عن ذلك العالم الذي تراءى لي اختلافاً كبيراً بل هي أدهى منه وأمر، فذلك عالم أشباح وزيف، وهي عالم حقيقة، ليت هذه المجاهل كانت بحاراً من الظلمات لها في النهاية شاطئ أمان، لكنها بحار وهاجة، شمسها لافحة، وكثبانها المتوّهة ظلمات بعضها فوق بعض، وربواتها الرملية المتصل بعضها ببعض غير متمايزة، ريحها صرصر عاتية لن تجدي معها هذه النظارة الواقية من شمس الشمال الكسولة،.. أقصى الجنوب! بجوار مالي والنيجر أو حتى موريتانيا غربا وليبيا شرقاً، القحط والجدب، والحرمان يسود هذه القارة من الرمال.
[size=12]هل يستطيع أحد غير الفقيه أن يجرؤ على مفاتحتها، لعلها تغير رأيها أو تتريث لبعض الوقت على الأقل؟ لكن كيف أجعل هذا السيد يتكلم؟ ذهبت عني كل الحيل والمهارات ربما لم يُسَمّ فقيهاً عبثاً، ينجز يومياً وحتى في جزء كبير من الليل الأعاجيب، ويحكي الناس عنه أحداثاً ومغامرات، ولكنه لا يكاد يظهر عليه كلام عن نفسه ولا عن أفعاله مع الآخرين، كأن موضوع نورة قد بُثّ فيه نهائياً، وأن الكلام انتهى هنا.
[size=12]أيكون ذلك الحلم الممزوج بكثير من الروع وقليل من الروعة محقاً فيما استحضر لي من ذكريات تاريخية بعيدة لا تخلو كلها من تأملات وآهات حلوة جميلة؟ ما ندمت قبل هذا اليوم كثير ندم على هجرة نعاجي، وهي تثغو ثغواً رخيماً، وأكثر ما يكون منظرها بديعاً ورشيقاً يشد إليه النفوس شداً إذا أقبل الأصيل وحانت العودة، تراها تراقص حملانها وهي قنوعة راضية، ما أسفت قبل هذا اليوم عظيم أسف على معاداة معيزي التي كانت أكثر إزعاجاً لي من قطيع الغنم، ولكنها على علاتها لم تكن أقل حباً عندنا فشعرها تنسج منه التلاليس لنقل الحبوب على البغال، يصنع بجلودها المزايد والمزاود، وحتى البنادير والغرابيل، حليبها أغزر وألذ من حليب النعاج، وهي ليست دونها بهاء وجمالاً إذا لاعبت جداءها حيناً، أو تسلقت جُرُفاً وصخوراً، لا تقدر عليها النعاج، حيناً آخر، وهي فوق هذا وذاك أشد منعة على الذئاب من النعاج، وأكثرها حساً وفطنة وذكاء.
[size=12]أجل، ندمت، ولات حين ندم، على التنكر المر إلى مزماري "الخماسي" الذي كانت أصداؤه تسمع الصم، وتوقظ الموتى، كانت الأودية والربى والسهوب والجبال المتقابلة تسحر به فتتسابق إلى تقليد زمره، فتارة ترققه، وتارة أخرى تفخمه، ثم توزعه في الهواء الطلق من كل الجهات، فتُجن لسماعه الراعيات المراهقات، وتطرب له القطعان والطيور والنّعام، وتشنف لصداه حتى الذئاب الرابضة المترصدة، والدواب الناعرة،.. ألف مزْمارَهُ الذي طالما كان يخترق تلك الأجواء الهادئة كلّ الأصناف من الحيوانات والأنعام والهوام والبشر،.. القوى أو "لَحْرامي" في آخر المطاف هو الذي يسود ويعيش،.. قانون الطبيعة، لا خوف من حية رقشاء سمها نافع ولا من عقرب صفراء لدغها زعاف.
[size=12]بعد ما صدمتني نورة بنيتها تلك اتضح لي فعلاً أن ما تراءى لي في منامي لم يكن كله هذراً وهذياناً، لم يخل كل الخلو من العبر، فرطت في كل شيء مهم ظللت أشب معه شبيبة، اغرتني المدرسة التي كانت حتى عهد قريب لا تمثل لواحد منا حتى فيما يراه النائم، كنا نحلم في عالم اللاشعور بكل شيء، نرى السجون، التعذيب، الجنائز، الجنة، النار، نكيراً ومنكراً، الاستعباد، الحقرة،.. إلا شيئاً ما اسمه مدرسة لعلها لم تكن قد ضمت بعد إلى قاموس الأحلام،... وإذا ما كنت ولجت بتلك السرعة المدرسة، وألقيت كل ما سبق ورائي ظهرياً فربما لم يكن الذنب ذنبي، لأن الحرية في بداية إشراق عهدها كانت تساوي المدرسة، اعذروني إذا لم أكن فطناً كيساً للتمييز بينهما.
[size=12]وهل مثل هذه الهراءات تجديه نفعاً اليوم أو غداً أمام نورة وقد أصبح شبه طفل معلق بأهدابها؟ ما أكثر ما حكى وحكى لها مثل هذه السخافات التي كانت في بداية عهدها به، وقبل أن يبني عليها، تستلذه وتستزيده منها! لم يعودا اليوم مراهقين متعاشقين،.. وهل صار لنورة وقت ضائع حتى تسمع له هذه الترهات؟ كلما عادت من المستشفى ساح بصرها في ملفات طبية، وساح عقلها في مجلات ومعاجم علمية بشتى اللغات العالمية...
[size=12]نورة، في هذه المرة، على غير دأبها، لم تتجه إلى التحديق في رفوف مكتبتها الصغيرة، واكتفت بالانسراح فوق سريرها الذي لا يثبت عندها على حال واحدة، ليست عصبية ولا مزاجية،.. يبدو أن السيدة مرهقة، أحياناً تتم ولادة غير طبيعية بعملية جراحية دقيقة ومعقدة، ما أكثر ما ينصح لبعض السيدات بالتوقف عن التفريخ، ولكن لا سلطان لهن على جهل أزواجهن الذين لا يفهمون ويندمون إلا إذا أرملوا وصار أبناؤهم مشردين.
[size=12]أيجد أحد في نفسه شيئاً من الشجاعة، وفي الحالة التي تعود فيها السيدة متعبة، ليراجعها في موضوع أحمق مثل هذا؟ ألم يقولوا: "في التأني.."؟ و"الصباح رباح". ومن يدري؟ لعلها تكون قد استشارت أحداً ممن تثق فيهم من لداتها، استطاع أن يؤثر عليها بطريقة ما، فالصديق عادة ما يؤثر على المرء أكثر من الزوج، يستحيل على طبيب مثل سي البشير ألا يؤثر عليها، فهي تثق فيه ثقة عمياء، على الرغم من تباين اختصاصهما.
[size=12]حياها بحرارة وشوق، فردت عليه التحية بحركة يصحبها فتور، وبدل أن تتفاجأ به مثلما توقعت نورة، بادرته إلى أخذ زمام الحديث: "إنها عشرة عمر، أليست عشرين سنة.. لا شك أن نورة تصرفت تصرفاً أحمق يوم أقلعت عن الولادة مثلها مثل بناء يبني للناس أجمل الفيلات، ويبيت في براكة أو حمام.. أن تقعد امرأة عن الحيض، وهي لا تبرح في أوج أنوثتها، وكامل صحتها، ظاهرة شاذة في ريفنا وحضرنا،.. مسكينة ابنتي! ها هي تعالج لعلها ترزق مولود، جلبت لها بعض الأعشاب من الريف القبائلي، نصحت لها أكثر من مرة بألا تزدرد تلك الأقراص الملعونة، أنت تذكر أنها في العشرية التي تسمونها سوداء كانت تشتريها من الخارج بالدوفيز.. آه! رحم الله زماناً كانت لنا أساليبنا في منع الحمل متى شئنا لكن أنّى لامرأتك أن تنصت إلى نصيحتي التي كانت تجعلها تستغرق في الضحك، وهي فنانة في فن التوليد؟.. وربما "ضربها" البرد، الجو عندكم في تلمسان بارد ومثلج في فصل الشتاء، حسدها الناس، كانت عين أمك دائماً وراءها نسيت؟ أهلك وأقاربك سببوا لها كثيراً من المشاكل، حتى أخوك ذلك الأهوج، لارده الله، حاول غير ما مرة أن يقنعها وينصحها بالبقاء في البيت، مغفل يحلم ببناء مستشفيات للنساء وأخرى للرجال، كما كان عقله صغيراً وأين يعالج أحد الجنسين ريثما يشيد المستشفى الثاني؟ مستشفيات وضعت أحجارها الأساسية منذ عشرية وعشريتين ولم تر النور، ولم لا يحلم بشق طرقات، وصنع طائرات، وحافلات، وقطارات،.. للإناث وأخرى للذكور؟ كنت متقاعساً لم تدافع دفاع ذلك الزوج الذي يحب امرأته، هو يضرب أخماساً لأسداس، وأنت تنظر إليه وكأنك كنت تقتنع بخطابه، ألم يكد يرغمها على ارتداء الحجاب، وكأن بنتي كانت تخرج كاسية عارية؟ ما كان أبلهه! كأن كل شيء في هذا البلد فردوس، ولم يبق إلا الجلباب الذي صارت كثير من الفتيات يرتدينه نفاقاً ورهباً لا رغباً، وأوجدت فيه بعض الموظفات ضالتهن وراحتهن منذ بداية العشرية التي تسمونها حمراء، أم تحسب أن مرتبها الضئيل يكفيها للتجميل وتسريح الشعر واقتناء بدلة تساوي راتبها؟ لم يبق إلا الجلباب والحائك والخمار.. أليس في هذا البلد أثرياء لا يزكون أموالهم؟ أين نحن من عهد الصديق؟ أليس في هذا البلد من وهب صحة فيل، ورزق أموال قارون، وهو صرورة؟ أليس في هذا العالم من يعبد الله على حرف؟.. كيف يؤمنون.. ويكفرون؟ يهتم الناس عندنا بالفروع أكثر من الأصول؟ من قام بالأصول لن يكون أحوج كثيراً إلى الفروع،.. وطننا في داهية، كل من سمع حرفاً انبرى للناس يحل لهم هذا ويحرم عليهم ذاك،.. إنها فتنة حمراء".
[size=12]حمداً لك يا رب، المطار لا يبعد عن المدينة إلا بربع ساعة وإلا فماذا، لو أن الرحلة ألغيت؟ لكن من أين لحماتي منيرة كل هذه الأفكار؟ أعرف أنها تهجي نصوصاً ورسائل بشيء من الصعوبة، كل من جاور وعاشر "معمرين" لا يعدم حظاً من الفرنسية.. كلما زادت الساعات مروراً، إلا وقد زدت أكثر إدراكاً بأن ما تراءى لي كان صائباً، إذ وصفني بالبلاهة والغفلة، وفاته شيء آخر أو تجاهله بأني مصاب أيضاً بمرض النسيان،.. آه! النسيان، ألم يكن حمئي، رحمه الله، إلا "دراراً" يعلم الذّراريّ في إحدى القرى القبائلية شيئاً من القرآن إلى عام سبعة وخمسين؟ كم كان حزيناً، والمدافع تَدُك الدور والمسجد الذي ظل لازا به ردحاً من الزمن دكاً عشوائياً وهو يظعن بما خف وزنه مع القرويين الظاعنين، لم تنس نورة كل شيء لا تبرح تلهج وتبدي إعجاباً وفخراً بالأيام التي كانت تصحب فيها أباها إلى الكتاب، بعد هجرة عائلتها إلى باب الواد صارت تتفوق على أقرانها في العربية تفوقاً جر عليها حقداً دفيناً من إداريين، وعجباً محيراً من تلاميذ جزائريين، لم يكن حمئى مثل سي علي تفقهاً وتبحراً في علوم اللغة والدين، ولكنه لم يكن قليل الإلمام بالأفكار التي دوخت بها منيرة رأسي.
[size=12]منيرة هي دائماً هكذا، كلما تعلق الأمر بشيء ما تقدره مؤذياً أو يمس نورة بسوء.. كأن زواجي بها كان السبب الوحيد في كل ما حدث أو قد يحدث لنورة التي قدمت رجلاً وأخرت أخرى ألف مرة قبل أن تأخذ القرار المصيري، حاولت أن تتردد لعل الأيام المتناسلة تغير من تقاليد الناس شيئاً، طلبت مني المزيد من التضحية بالصبر شفقة على أهلها، كلما كانت الأيام تمر حبلى ثقيلة بالمجهول كنت أزداد وسواساً وقلقاً وارتياباً، ليس لي أي ضمان، الخطاب لا يرحمون ولا يتعامون عن طبيبة جميلة في قد وسن نورة أم تحسب أن الحب المتبادل في حالة مثل حالتي المعقدة صك مؤشر على بياض؟
[size=12]
المقطع الرابع هل كانت الختنة منصفة سميراً؟ ربما كان من حسن حظه وجود رحلة من الطيران على خط تلمسان، وإلا فماذا كان يسمع لو استقبلها من وهران؟ كان الرجل الذي لا يبرح منفزعاً إلى حد ما منتظراً من منيرة أن تسأله عن الحدث العظيم، عن الجان الذي "سكنه" وعن معجزة سي علي الذي طرده، وعن أحوال العائلة إلا صهرتها طبعاً، كل شيء لم يرد في ثرثرتها التي استثقلها، تمنى لو أن المسافة القصيرة اختصرت في أمتار والدقائق القليلة آلت إلى ثوانٍ. [size=12]لم يتوان سمير قط في حماية زوجته يوم تعرضت لشيء ما من نزوات أخيه الذي كانت لهجته هادئة صادقة، هو شاب مهندس فلاحي لا يفقه في أمور الدين إلا ما قرع سمعه من بعض الخطب والأحاديث التي كانت تلهب عقول الشباب، كأنها أوامر ونواه تنزل وحياً على أولئك الخطباء المتحمسين لأول وهلة، أو بعث بها جبريل، بعد أربعة عشر قرناً، من جديد. [size=12]حاول سمير الذي لا يريد أن يخوض في مسائل الفقه والشريعة كثيراً أن يجادل أخاه عمر بالتي هي أحسن، أراد هذا أن يخاطبه بنصوص عميقة المفاهيم، بينما كان ذاك يحاجه بتوجيهات أخرى رسخت في عقله وطبعت على قلبه،.. أما نورة التي أقدمت إلى تدلية وإرخاء تنورتها في عز العشرية الحمراء، فلم يكن ذلك منها جبناً ولا اقتناعاً بما كان يتلفظ به عمر من أفكار طارئة، قدمت على ذلك حتى لا تحدث فتنة ولا شدخاً بين الشقيقين.. أما عمر فلم يكن بوسعه أن يكره نورة على أمر لا تقتنع هي به، كان أبوها فقيهاً محافظاً، تقياً ورعاً، ولم يجبرها يوماً على ذلك، فكيف بهذا الشاب الذي صار يجترئ بترديد ما قرع سمعه من خطب المساجد وأحاديث المقاهي، وكلام الساحات، وشجون البيوتات،..؟ والواقع أن عمر كان يحبها حباً كثيراً، ويحترمها احتراماً شديداً، وربما لاطفها: "في أول يوم بنى عليك سمير، تمنيت لو كنت فتاة.." [size=12]كان الشاب عمر الذي لا يعدم مع ذلك حصافة وذكاء يعلم أن زوج أخيه سيدة محافظة متجددة، تنهل من كل الورود المتفتحة دون أن تقع طريدة أو فريسة لوردة بعينها، تحب الورد المزهرة كلها دون أن تغري أسيرة بواحدة منها،.. أين هي من الشاب عمر الذي أعجب بوردة واحدة، وهو لا يزال ابن الثالثة والعشرين ربيعاً؟.. بهذا تكاملت نورة مع سمير، تحاك العلم بالخيال تماست الدكتورة الحقيقة بـ "الدكتور" المزيف، تعانقت المرأة الوقور الجسور بالرجل المغضوب عليه المقبل نادراً والمدبر غالباً في كل خطوة مصيرية وقت حسمها قصير،.. تكاد نورة تنتهي إجراءاتها، وهو لا ينفك غير مصدق، وكأن لديه خاتم سليمان أو حتى بركة سي علي لتؤثر على توجهها الذي ظل حلماً غريباً يراودها، ربما فيما مضى كان هزلاً يدعو إلى الضحك.. [size=12]كانت التلميذات يخلون بأنفسهن، يبادرن إلى المزاح وطرد الملل بقراءة المستقبل،.. شريك العمر وشكله، .. العمل المفضل،.. الأمل المعلق الطويل،.. يدق الجرس فتتبخر الأحلام، .. لكن بعد سنوات، ها هو الجرس يدق، وهاذي نورة يراودها الحلم من جديد. [size=12]لسمير رؤية أخرى تختلف اختلافاً كثيراً عن رؤية الشاب أخيه، وحلم آخر يتباين تبايناً عظيماً عن حلم زوجته، قد يتشابه الناس في كل شيء إلا في الأحلام،.. سمير هذا الرجل الكهل عاش أحداثاً مخضرمة شتى، وهو غلام يافع،.. لم يخلق الله نشاطاً تحت السماء ولا فوق الأرض إلا جربه ومارسه، فهو فلاح صغير، اليوم، وتاجر مغامر غداً وصياد، وراع، ومربي حيوانات، وناطور حقول وغلات أرض من الأرانب والقنافذ، والذئاب، و"الزواش" .. في أيامات أخرى. ألم يكن حظر التجول في أعوام الثورة كلما دنت الشمس من الغروب إلا نعمة وراحة له.؟ [size=12]ما أكثر ما كانت بعض العائلات التي لم ترزق غير البنات تستأجره لسقي المياه من آبار نائية زلالية مقابل أجر زهيد! العسكر، ولا سيما اللفيف الأجنبي الذي يسميه الناس "لا ليجو"، لا يرحم أرامل ولا أيامي ولا أبكارا، .. كالجراد المنتشر، إذا خرج من ثكنته لتمشيط قرية أو منطقة اغتصبت كل ذات أنثى في طريقه، .. لم يكن هؤلاء ولا أولئك في ديارهن المتناثرة في أودية وسهول والمترامية الأطراف فوق ربوات وقمم جبلية أقل خطورة ممن يغادرن دورهن لم يكن يردن أن يكن صيداً مستساغاً ذلولاً لهؤلاء المتوحشين المفسدين في الأرض.. غير أن سميراً الغلام الذي لم يكن يحفل باستنطاق "لاليجو" ولا حتى بركلاته وصفعاته أحياناً، وبطلقات نارية تدويّ مزغردة فوق رأسه أحياناً أخرى، كان يرتزق من وراء وحشية "لاليجو"،.. فهو لا يجد تفسيراً لظواهر ظلت بمرور الوقت تخالجه، ألا يمكن للناس أن يشتركوا في السعادة والسلم والشبع،.. إلا إذا شقي فريق آخر منهم وحورب وجُوع؟.. إلى أن يأتي اليوم الذي ينبري له من يجيب على تساؤله، فإن عائلة فلاحية ثرية تملك مطامير قمحاً وشعيراً وقطعاناً وبساتين،.. كانت تمنحه قطعة من النقود يلاعبها ويراقصها بإبهامه وسبابته ليل نهار قبل أن يضطر إلى إنفاقها، وعائلة أخرى متوسطة الحال تهبه قميصاً مرقعاً أو سروالاً خلقاً أو نعلاً مسموراً، وعائلة لا تملك قوت إسبوع ربما قاسمته زاد عشائها،.. هل كان سمير قنوعاً بما كان يتفضل به عليه أم هو الزهد الذي كان يغمر النفوس ويسدها إبان ثورة التحرير ولم يكن هذا الغلام إلا مظهراً بريئاً منها؟ [/size][/size][/size][/size] | |
المقطع الرابع هل كانت الختنة منصفة سميراً؟ ربما كان من حسن حظه وجود رحلة من الطيران على خط تلمسان، وإلا فماذا كان يسمع لو استقبلها من وهران؟ كان الرجل الذي لا يبرح منفزعاً إلى حد ما منتظراً من منيرة أن تسأله عن الحدث العظيم، عن الجان الذي "سكنه" وعن معجزة سي علي الذي طرده، وعن أحوال العائلة إلا صهرتها طبعاً، كل شيء لم يرد في ثرثرتها التي استثقلها، تمنى لو أن المسافة القصيرة اختصرت في أمتار والدقائق القليلة آلت إلى ثوانٍ. لم يتوان سمير قط في حماية زوجته يوم تعرضت لشيء ما من نزوات أخيه الذي كانت لهجته هادئة صادقة، هو شاب مهندس فلاحي لا يفقه في أمور الدين إلا ما قرع سمعه من بعض الخطب والأحاديث التي كانت تلهب عقول الشباب، كأنها أوامر ونواه تنزل وحياً على أولئك الخطباء المتحمسين لأول وهلة، أو بعث بها جبريل، بعد أربعة عشر قرناً، من جديد. حاول سمير الذي لا يريد أن يخوض في مسائل الفقه والشريعة كثيراً أن يجادل أخاه عمر بالتي هي أحسن، أراد هذا أن يخاطبه بنصوص عميقة المفاهيم، بينما كان ذاك يحاجه بتوجيهات أخرى رسخت في عقله وطبعت على قلبه،.. أما نورة التي أقدمت إلى تدلية وإرخاء تنورتها في عز العشرية الحمراء، فلم يكن ذلك منها جبناً ولا اقتناعاً بما كان يتلفظ به عمر من أفكار طارئة، قدمت على ذلك حتى لا تحدث فتنة ولا شدخاً بين الشقيقين.. أما عمر فلم يكن بوسعه أن يكره نورة على أمر لا تقتنع هي به، كان أبوها فقيهاً محافظاً، تقياً ورعاً، ولم يجبرها يوماً على ذلك، فكيف بهذا الشاب الذي صار يجترئ بترديد ما قرع سمعه من خطب المساجد وأحاديث المقاهي، وكلام الساحات، وشجون البيوتات،..؟ والواقع أن عمر كان يحبها حباً كثيراً، ويحترمها احتراماً شديداً، وربما لاطفها: "في أول يوم بنى عليك سمير، تمنيت لو كنت فتاة.." [size=12]كان الشاب عمر الذي لا يعدم مع ذلك حصافة وذكاء يعلم أن زوج أخيه سيدة محافظة متجددة، تنهل من كل الورود المتفتحة دون أن تقع طريدة أو فريسة لوردة بعينها، تحب الورد المزهرة كلها دون أن تغري أسيرة بواحدة منها،.. أين هي من الشاب عمر الذي أعجب بوردة واحدة، وهو لا يزال ابن الثالثة والعشرين ربيعاً؟.. بهذا تكاملت نورة مع سمير، تحاك العلم بالخيال تماست الدكتورة الحقيقة بـ "الدكتور" المزيف، تعانقت المرأة الوقور الجسور بالرجل المغضوب عليه المقبل نادراً والمدبر غالباً في كل خطوة مصيرية وقت حسمها قصير،.. تكاد نورة تنتهي إجراءاتها، وهو لا ينفك غير مصدق، وكأن لديه خاتم سليمان أو حتى بركة سي علي لتؤثر على توجهها الذي ظل حلماً غريباً يراودها، ربما فيما مضى كان هزلاً يدعو إلى الضحك.. [size=12]كانت التلميذات يخلون بأنفسهن، يبادرن إلى المزاح وطرد الملل بقراءة المستقبل،.. شريك العمر وشكله، .. العمل المفضل،.. الأمل المعلق الطويل،.. يدق الجرس فتتبخر الأحلام، .. لكن بعد سنوات، ها هو الجرس يدق، وهاذي نورة يراودها الحلم من جديد. [size=12]لسمير رؤية أخرى تختلف اختلافاً كثيراً عن رؤية الشاب أخيه، وحلم آخر يتباين تبايناً عظيماً عن حلم زوجته، قد يتشابه الناس في كل شيء إلا في الأحلام،.. سمير هذا الرجل الكهل عاش أحداثاً مخضرمة شتى، وهو غلام يافع،.. لم يخلق الله نشاطاً تحت السماء ولا فوق الأرض إلا جربه ومارسه، فهو فلاح صغير، اليوم، وتاجر مغامر غداً وصياد، وراع، ومربي حيوانات، وناطور حقول وغلات أرض من الأرانب والقنافذ، والذئاب، و"الزواش" .. في أيامات أخرى. ألم يكن حظر التجول في أعوام الثورة كلما دنت الشمس من الغروب إلا نعمة وراحة له.؟ [size=12]ما أكثر ما كانت بعض العائلات التي لم ترزق غير البنات تستأجره لسقي المياه من آبار نائية زلالية مقابل أجر زهيد! العسكر، ولا سيما اللفيف الأجنبي الذي يسميه الناس "لا ليجو"، لا يرحم أرامل ولا أيامي ولا أبكارا، .. كالجراد المنتشر، إذا خرج من ثكنته لتمشيط قرية أو منطقة اغتصبت كل ذات أنثى في طريقه، .. لم يكن هؤلاء ولا أولئك في ديارهن المتناثرة في أودية وسهول والمترامية الأطراف فوق ربوات وقمم جبلية أقل خطورة ممن يغادرن دورهن لم يكن يردن أن يكن صيداً مستساغاً ذلولاً لهؤلاء المتوحشين المفسدين في الأرض.. غير أن سميراً الغلام الذي لم يكن يحفل باستنطاق "لاليجو" ولا حتى بركلاته وصفعاته أحياناً، وبطلقات نارية تدويّ مزغردة فوق رأسه أحياناً أخرى، كان يرتزق من وراء وحشية "لاليجو"،.. فهو لا يجد تفسيراً لظواهر ظلت بمرور الوقت تخالجه، ألا يمكن للناس أن يشتركوا في السعادة والسلم والشبع،.. إلا إذا شقي فريق آخر منهم وحورب وجُوع؟.. إلى أن يأتي اليوم الذي ينبري له من يجيب على تساؤله، فإن عائلة فلاحية ثرية تملك مطامير قمحاً وشعيراً وقطعاناً وبساتين،.. كانت تمنحه قطعة من النقود يلاعبها ويراقصها بإبهامه وسبابته ليل نهار قبل أن يضطر إلى إنفاقها، وعائلة أخرى متوسطة الحال تهبه قميصاً مرقعاً أو سروالاً خلقاً أو نعلاً مسموراً، وعائلة لا تملك قوت إسبوع ربما قاسمته زاد عشائها،.. هل كان سمير قنوعاً بما كان يتفضل به عليه أم هو الزهد الذي كان يغمر النفوس ويسدها إبان ثورة التحرير ولم يكن هذا الغلام إلا مظهراً بريئاً منها؟ [/size][/size][/size][/size] | |
المقطع الرابع هل كانت الختنة منصفة سميراً؟ ربما كان من حسن حظه وجود رحلة من الطيران على خط تلمسان، وإلا فماذا كان يسمع لو استقبلها من وهران؟ كان الرجل الذي لا يبرح منفزعاً إلى حد ما منتظراً من منيرة أن تسأله عن الحدث العظيم، عن الجان الذي "سكنه" وعن معجزة سي علي الذي طرده، وعن أحوال العائلة إلا صهرتها طبعاً، كل شيء لم يرد في ثرثرتها التي استثقلها، تمنى لو أن المسافة القصيرة اختصرت في أمتار والدقائق القليلة آلت إلى ثوانٍ. لم يتوان سمير قط في حماية زوجته يوم تعرضت لشيء ما من نزوات أخيه الذي كانت لهجته هادئة صادقة، هو شاب مهندس فلاحي لا يفقه في أمور الدين إلا ما قرع سمعه من بعض الخطب والأحاديث التي كانت تلهب عقول الشباب، كأنها أوامر ونواه تنزل وحياً على أولئك الخطباء المتحمسين لأول وهلة، أو بعث بها جبريل، بعد أربعة عشر قرناً، من جديد. حاول سمير الذي لا يريد أن يخوض في مسائل الفقه والشريعة كثيراً أن يجادل أخاه عمر بالتي هي أحسن، أراد هذا أن يخاطبه بنصوص عميقة المفاهيم، بينما كان ذاك يحاجه بتوجيهات أخرى رسخت في عقله وطبعت على قلبه،.. أما نورة التي أقدمت إلى تدلية وإرخاء تنورتها في عز العشرية الحمراء، فلم يكن ذلك منها جبناً ولا اقتناعاً بما كان يتلفظ به عمر من أفكار طارئة، قدمت على ذلك حتى لا تحدث فتنة ولا شدخاً بين الشقيقين.. أما عمر فلم يكن بوسعه أن يكره نورة على أمر لا تقتنع هي به، كان أبوها فقيهاً محافظاً، تقياً ورعاً، ولم يجبرها يوماً على ذلك، فكيف بهذا الشاب الذي صار يجترئ بترديد ما قرع سمعه من خطب المساجد وأحاديث المقاهي، وكلام الساحات، وشجون البيوتات،..؟ والواقع أن عمر كان يحبها حباً كثيراً، ويحترمها احتراماً شديداً، وربما لاطفها: "في أول يوم بنى عليك سمير، تمنيت لو كنت فتاة.." [size=12]كان الشاب عمر الذي لا يعدم مع ذلك حصافة وذكاء يعلم أن زوج أخيه سيدة محافظة متجددة، تنهل من كل الورود المتفتحة دون أن تقع طريدة أو فريسة لوردة بعينها، تحب الورد المزهرة كلها دون أن تغري أسيرة بواحدة منها،.. أين هي من الشاب عمر الذي أعجب بوردة واحدة، وهو لا يزال ابن الثالثة والعشرين ربيعاً؟.. بهذا تكاملت نورة مع سمير، تحاك العلم بالخيال تماست الدكتورة الحقيقة بـ "الدكتور" المزيف، تعانقت المرأة الوقور الجسور بالرجل المغضوب عليه المقبل نادراً والمدبر غالباً في كل خطوة مصيرية وقت حسمها قصير،.. تكاد نورة تنتهي إجراءاتها، وهو لا ينفك غير مصدق، وكأن لديه خاتم سليمان أو حتى بركة سي علي لتؤثر على توجهها الذي ظل حلماً غريباً يراودها، ربما فيما مضى كان هزلاً يدعو إلى الضحك.. [size=12]كانت التلميذات يخلون بأنفسهن، يبادرن إلى المزاح وطرد الملل بقراءة المستقبل،.. شريك العمر وشكله، .. العمل المفضل،.. الأمل المعلق الطويل،.. يدق الجرس فتتبخر الأحلام، .. لكن بعد سنوات، ها هو الجرس يدق، وهاذي نورة يراودها الحلم من جديد. [size=12]لسمير رؤية أخرى تختلف اختلافاً كثيراً عن رؤية الشاب أخيه، وحلم آخر يتباين تبايناً عظيماً عن حلم زوجته، قد يتشابه الناس في كل شيء إلا في الأحلام،.. سمير هذا الرجل الكهل عاش أحداثاً مخضرمة شتى، وهو غلام يافع،.. لم يخلق الله نشاطاً تحت السماء ولا فوق الأرض إلا جربه ومارسه، فهو فلاح صغير، اليوم، وتاجر مغامر غداً وصياد، وراع، ومربي حيوانات، وناطور حقول وغلات أرض من الأرانب والقنافذ، والذئاب، و"الزواش" .. في أيامات أخرى. ألم يكن حظر التجول في أعوام الثورة كلما دنت الشمس من الغروب إلا نعمة وراحة له.؟ [size=12]ما أكثر ما كانت بعض العائلات التي لم ترزق غير البنات تستأجره لسقي المياه من آبار نائية زلالية مقابل أجر زهيد! العسكر، ولا سيما اللفيف الأجنبي الذي يسميه الناس "لا ليجو"، لا يرحم أرامل ولا أيامي ولا أبكارا، .. كالجراد المنتشر، إذا خرج من ثكنته لتمشيط قرية أو منطقة اغتصبت كل ذات أنثى في طريقه، .. لم يكن هؤلاء ولا أولئك في ديارهن المتناثرة في أودية وسهول والمترامية الأطراف فوق ربوات وقمم جبلية أقل خطورة ممن يغادرن دورهن لم يكن يردن أن يكن صيداً مستساغاً ذلولاً لهؤلاء المتوحشين المفسدين في الأرض.. غير أن سميراً الغلام الذي لم يكن يحفل باستنطاق "لاليجو" ولا حتى بركلاته وصفعاته أحياناً، وبطلقات نارية تدويّ مزغردة فوق رأسه أحياناً أخرى، كان يرتزق من وراء وحشية "لاليجو"،.. فهو لا يجد تفسيراً لظواهر ظلت بمرور الوقت تخالجه، ألا يمكن للناس أن يشتركوا في السعادة والسلم والشبع،.. إلا إذا شقي فريق آخر منهم وحورب وجُوع؟.. إلى أن يأتي اليوم الذي ينبري له من يجيب على تساؤله، فإن عائلة فلاحية ثرية تملك مطامير قمحاً وشعيراً وقطعاناً وبساتين،.. كانت تمنحه قطعة من النقود يلاعبها ويراقصها بإبهامه وسبابته ليل نهار قبل أن يضطر إلى إنفاقها، وعائلة أخرى متوسطة الحال تهبه قميصاً مرقعاً أو سروالاً خلقاً أو نعلاً مسموراً، وعائلة لا تملك قوت إسبوع ربما قاسمته زاد عشائها،.. هل كان سمير قنوعاً بما كان يتفضل به عليه أم هو الزهد الذي كان يغمر النفوس ويسدها إبان ثورة التحرير ولم يكن هذا الغلام إلا مظهراً بريئاً منها؟ [/size][/size][/size][/size] | |
المقطع الرابع هل كانت الختنة منصفة سميراً؟ ربما كان من حسن حظه وجود رحلة من الطيران على خط تلمسان، وإلا فماذا كان يسمع لو استقبلها من وهران؟ كان الرجل الذي لا يبرح منفزعاً إلى حد ما منتظراً من منيرة أن تسأله عن الحدث العظيم، عن الجان الذي "سكنه" وعن معجزة سي علي الذي طرده، وعن أحوال العائلة إلا صهرتها طبعاً، كل شيء لم يرد في ثرثرتها التي استثقلها، تمنى لو أن المسافة القصيرة اختصرت في أمتار والدقائق القليلة آلت إلى ثوانٍ. لم يتوان سمير قط في حماية زوجته يوم تعرضت لشيء ما من نزوات أخيه الذي كانت لهجته هادئة صادقة، هو شاب مهندس فلاحي لا يفقه في أمور الدين إلا ما قرع سمعه من بعض الخطب والأحاديث التي كانت تلهب عقول الشباب، كأنها أوامر ونواه تنزل وحياً على أولئك الخطباء المتحمسين لأول وهلة، أو بعث بها جبريل، بعد أربعة عشر قرناً، من جديد. حاول سمير الذي لا يريد أن يخوض في مسائل الفقه والشريعة كثيراً أن يجادل أخاه عمر بالتي هي أحسن، أراد هذا أن يخاطبه بنصوص عميقة المفاهيم، بينما كان ذاك يحاجه بتوجيهات أخرى رسخت في عقله وطبعت على قلبه،.. أما نورة التي أقدمت إلى تدلية وإرخاء تنورتها في عز العشرية الحمراء، فلم يكن ذلك منها جبناً ولا اقتناعاً بما كان يتلفظ به عمر من أفكار طارئة، قدمت على ذلك حتى لا تحدث فتنة ولا شدخاً بين الشقيقين.. أما عمر فلم يكن بوسعه أن يكره نورة على أمر لا تقتنع هي به، كان أبوها فقيهاً محافظاً، تقياً ورعاً، ولم يجبرها يوماً على ذلك، فكيف بهذا الشاب الذي صار يجترئ بترديد ما قرع سمعه من خطب المساجد وأحاديث المقاهي، وكلام الساحات، وشجون البيوتات،..؟ والواقع أن عمر كان يحبها حباً كثيراً، ويحترمها احتراماً شديداً، وربما لاطفها: "في أول يوم بنى عليك سمير، تمنيت لو كنت فتاة.." [size=12]كان الشاب عمر الذي لا يعدم مع ذلك حصافة وذكاء يعلم أن زوج أخيه سيدة محافظة متجددة، تنهل من كل الورود المتفتحة دون أن تقع طريدة أو فريسة لوردة بعينها، تحب الورد المزهرة كلها دون أن تغري أسيرة بواحدة منها،.. أين هي من الشاب عمر الذي أعجب بوردة واحدة، وهو لا يزال ابن الثالثة والعشرين ربيعاً؟.. بهذا تكاملت نورة مع سمير، تحاك العلم بالخيال تماست الدكتورة الحقيقة بـ "الدكتور" المزيف، تعانقت المرأة الوقور الجسور بالرجل المغضوب عليه المقبل نادراً والمدبر غالباً في كل خطوة مصيرية وقت حسمها قصير،.. تكاد نورة تنتهي إجراءاتها، وهو لا ينفك غير مصدق، وكأن لديه خاتم سليمان أو حتى بركة سي علي لتؤثر على توجهها الذي ظل حلماً غريباً يراودها، ربما فيما مضى كان هزلاً يدعو إلى الضحك.. [size=12]كانت التلميذات يخلون بأنفسهن، يبادرن إلى المزاح وطرد الملل بقراءة المستقبل،.. شريك العمر وشكله، .. العمل المفضل،.. الأمل المعلق الطويل،.. يدق الجرس فتتبخر الأحلام، .. لكن بعد سنوات، ها هو الجرس يدق، وهاذي نورة يراودها الحلم من جديد. [size=12]لسمير رؤية أخرى تختلف اختلافاً كثيراً عن رؤية الشاب أخيه، وحلم آخر يتباين تبايناً عظيماً عن حلم زوجته، قد يتشابه الناس في كل شيء إلا في الأحلام،.. سمير هذا الرجل الكهل عاش أحداثاً مخضرمة شتى، وهو غلام يافع،.. لم يخلق الله نشاطاً تحت السماء ولا فوق الأرض إلا جربه ومارسه، فهو فلاح صغير، اليوم، وتاجر مغامر غداً وصياد، وراع، ومربي حيوانات، وناطور حقول وغلات أرض من الأرانب والقنافذ، والذئاب، و"الزواش" .. في أيامات أخرى. ألم يكن حظر التجول في أعوام الثورة كلما دنت الشمس من الغروب إلا نعمة وراحة له.؟ [size=12]ما أكثر ما كانت بعض العائلات التي لم ترزق غير البنات تستأجره لسقي المياه من آبار نائية زلالية مقابل أجر زهيد! العسكر، ولا سيما اللفيف الأجنبي الذي يسميه الناس "لا ليجو"، لا يرحم أرامل ولا أيامي ولا أبكارا، .. كالجراد المنتشر، إذا خرج من ثكنته لتمشيط قرية أو منطقة اغتصبت كل ذات أنثى في طريقه، .. لم يكن هؤلاء ولا أولئك في ديارهن المتناثرة في أودية وسهول والمترامية الأطراف فوق ربوات وقمم جبلية أقل خطورة ممن يغادرن دورهن لم يكن يردن أن يكن صيداً مستساغاً ذلولاً لهؤلاء المتوحشين المفسدين في الأرض.. غير أن سميراً الغلام الذي لم يكن يحفل باستنطاق "لاليجو" ولا حتى بركلاته وصفعاته أحياناً، وبطلقات نارية تدويّ مزغردة فوق رأسه أحياناً أخرى، كان يرتزق من وراء وحشية "لاليجو"،.. فهو لا يجد تفسيراً لظواهر ظلت بمرور الوقت تخالجه، ألا يمكن للناس أن يشتركوا في السعادة والسلم والشبع،.. إلا إذا شقي فريق آخر منهم وحورب وجُوع؟.. إلى أن يأتي اليوم الذي ينبري له من يجيب على تساؤله، فإن عائلة فلاحية ثرية تملك مطامير قمحاً وشعيراً وقطعاناً وبساتين،.. كانت تمنحه قطعة من النقود يلاعبها ويراقصها بإبهامه وسبابته ليل نهار قبل أن يضطر إلى إنفاقها، وعائلة أخرى متوسطة الحال تهبه قميصاً مرقعاً أو سروالاً خلقاً أو نعلاً مسموراً، وعائلة لا تملك قوت إسبوع ربما قاسمته زاد عشائها،.. هل كان سمير قنوعاً بما كان يتفضل به عليه أم هو الزهد الذي كان يغمر النفوس ويسدها إبان ثورة التحرير ولم يكن هذا الغلام إلا مظهراً بريئاً منها؟ [/size][/size][/size][/size] | |
المقطع الرابع هل كانت الختنة منصفة سميراً؟ ربما كان من حسن حظه وجود رحلة من الطيران على خط تلمسان، وإلا فماذا كان يسمع لو استقبلها من وهران؟ كان الرجل الذي لا يبرح منفزعاً إلى حد ما منتظراً من منيرة أن تسأله عن الحدث العظيم، عن الجان الذي "سكنه" وعن معجزة سي علي الذي طرده، وعن أحوال العائلة إلا صهرتها طبعاً، كل شيء لم يرد في ثرثرتها التي استثقلها، تمنى لو أن المسافة القصيرة اختصرت في أمتار والدقائق القليلة آلت إلى ثوانٍ. لم يتوان سمير قط في حماية زوجته يوم تعرضت لشيء ما من نزوات أخيه الذي كانت لهجته هادئة صادقة، هو شاب مهندس فلاحي لا يفقه في أمور الدين إلا ما قرع سمعه من بعض الخطب والأحاديث التي كانت تلهب عقول الشباب، كأنها أوامر ونواه تنزل وحياً على أولئك الخطباء المتحمسين لأول وهلة، أو بعث بها جبريل، بعد أربعة عشر قرناً، من جديد. حاول سمير الذي لا يريد أن يخوض في مسائل الفقه والشريعة كثيراً أن يجادل أخاه عمر بالتي هي أحسن، أراد هذا أن يخاطبه بنصوص عميقة المفاهيم، بينما كان ذاك يحاجه بتوجيهات أخرى رسخت في عقله وطبعت على قلبه،.. أما نورة التي أقدمت إلى تدلية وإرخاء تنورتها في عز العشرية الحمراء، فلم يكن ذلك منها جبناً ولا اقتناعاً بما كان يتلفظ به عمر من أفكار طارئة، قدمت على ذلك حتى لا تحدث فتنة ولا شدخاً بين الشقيقين.. أما عمر فلم يكن بوسعه أن يكره نورة على أمر لا تقتنع هي به، كان أبوها فقيهاً محافظاً، تقياً ورعاً، ولم يجبرها يوماً على ذلك، فكيف بهذا الشاب الذي صار يجترئ بترديد ما قرع سمعه من خطب المساجد وأحاديث المقاهي، وكلام الساحات، وشجون البيوتات،..؟ والواقع أن عمر كان يحبها حباً كثيراً، ويحترمها احتراماً شديداً، وربما لاطفها: "في أول يوم بنى عليك سمير، تمنيت لو كنت فتاة.." [size=12]كان الشاب عمر الذي لا يعدم مع ذلك حصافة وذكاء يعلم أن زوج أخيه سيدة محافظة متجددة، تنهل من كل الورود المتفتحة دون أن تقع طريدة أو فريسة لوردة بعينها، تحب الورد المزهرة كلها دون أن تغري أسيرة بواحدة منها،.. أين هي من الشاب عمر الذي أعجب بوردة واحدة، وهو لا يزال ابن الثالثة والعشرين ربيعاً؟.. بهذا تكاملت نورة مع سمير، تحاك العلم بالخيال تماست الدكتورة الحقيقة بـ "الدكتور" المزيف، تعانقت المرأة الوقور الجسور بالرجل المغضوب عليه المقبل نادراً والمدبر غالباً في كل خطوة مصيرية وقت حسمها قصير،.. تكاد نورة تنتهي إجراءاتها، وهو لا ينفك غير مصدق، وكأن لديه خاتم سليمان أو حتى بركة سي علي لتؤثر على توجهها الذي ظل حلماً غريباً يراودها، ربما فيما مضى كان هزلاً يدعو إلى الضحك.. [size=12]كانت التلميذات يخلون بأنفسهن، يبادرن إلى المزاح وطرد الملل بقراءة المستقبل،.. شريك العمر وشكله، .. العمل المفضل،.. الأمل المعلق الطويل،.. يدق الجرس فتتبخر الأحلام، .. لكن بعد سنوات، ها هو الجرس يدق، وهاذي نورة يراودها الحلم من جديد. [size=12]لسمير رؤية أخرى تختلف اختلافاً كثيراً عن رؤية الشاب أخيه، وحلم آخر يتباين تبايناً عظيماً عن حلم زوجته، قد يتشابه الناس في كل شيء إلا في الأحلام،.. سمير هذا الرجل الكهل عاش أحداثاً مخضرمة شتى، وهو غلام يافع،.. لم يخلق الله نشاطاً تحت السماء ولا فوق الأرض إلا جربه ومارسه، فهو فلاح صغير، اليوم، وتاجر مغامر غداً وصياد، وراع، ومربي حيوانات، وناطور حقول وغلات أرض من الأرانب والقنافذ، والذئاب، و"الزواش" .. في أيامات أخرى. ألم يكن حظر التجول في أعوام الثورة كلما دنت الشمس من الغروب إلا نعمة وراحة له.؟ [size=12]ما أكثر ما كانت بعض العائلات التي لم ترزق غير البنات تستأجره لسقي المياه من آبار نائية زلالية مقابل أجر زهيد! العسكر، ولا سيما اللفيف الأجنبي الذي يسميه الناس "لا ليجو"، لا يرحم أرامل ولا أيامي ولا أبكارا، .. كالجراد المنتشر، إذا خرج من ثكنته لتمشيط قرية أو منطقة اغتصبت كل ذات أنثى في طريقه، .. لم يكن هؤلاء ولا أولئك في ديارهن المتناثرة في أودية وسهول والمترامية الأطراف فوق ربوات وقمم جبلية أقل خطورة ممن يغادرن دورهن لم يكن يردن أن يكن صيداً مستساغاً ذلولاً لهؤلاء المتوحشين المفسدين في الأرض.. غير أن سميراً الغلام الذي لم يكن يحفل باستنطاق "لاليجو" ولا حتى بركلاته وصفعاته أحياناً، وبطلقات نارية تدويّ مزغردة فوق رأسه أحياناً أخرى، كان يرتزق من وراء وحشية "لاليجو"،.. فهو لا يجد تفسيراً لظواهر ظلت بمرور الوقت تخالجه، ألا يمكن للناس أن يشتركوا في السعادة والسلم والشبع،.. إلا إذا شقي فريق آخر منهم وحورب وجُوع؟.. إلى أن يأتي اليوم الذي ينبري له من يجيب على تساؤله، فإن عائلة فلاحية ثرية تملك مطامير قمحاً وشعيراً وقطعاناً وبساتين،.. كانت تمنحه قطعة من النقود يلاعبها ويراقصها بإبهامه وسبابته ليل نهار قبل أن يضطر إلى إنفاقها، وعائلة أخرى متوسطة الحال تهبه قميصاً مرقعاً أو سروالاً خلقاً أو نعلاً مسموراً، وعائلة لا تملك قوت إسبوع ربما قاسمته زاد عشائها،.. هل كان سمير قنوعاً بما كان يتفضل به عليه أم هو الزهد الذي كان يغمر النفوس ويسدها إبان ثورة التحرير ولم يكن هذا الغلام إلا مظهراً بريئاً منها؟ [/size][/size][/size][/size] | |
</TD></TR></TABLE></TD></TR></TABLE></TD></TR></TABLE></TD></TR></TABLE>[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]