عمي الهادي يتذكر صور المجزرة بسطيف
”الفرنسيون والمعمرون كانوا يطلقون علينا النار من الشرفات”
مازال عمي محمد الهادي شريف،
المدعو جنادي، يتذكر أحداث الثامن ماي 45 دقيقة بدقيقة، رغم ثقل أعوامه
الأربعة والثمانين، وتأثيرها على السمع والبصر والذاكرة؛ حيث قال لنا ”أنا
لا أتذكر وجبة العشاء ليوم أمس، غير أنني أتذكر أحداث الثامن ماي من
بدايتها إلى نهايتها”·
عاد بنا السيد محمد الهادي شريف إلى بداية شهر
ماي من عام 1945 حين كان سنه 22 ربيعا، حينما بدأت الترتيبات لتنظيم مسيرة
سلمية بمدينة سطيف كان هدفها استقبال الجنود الجزائريين الذين شاركوا في
حرب الحلفاء ضد ألمانيا النازية، وكذا تقديم لائحة مطالب تذكر فرنسا
والحلفاء بتعهداتهم بمنح كل الشعوب المستعمرة التي ساعدتهم على الوقوف في
وجه النازية استقلالها·
يقول عمي الشريف ”تم توجيه عمي محمد نحو خلية
جمع الأعلام الوطنية للحلفاء من مقر مركز إعلام الحلفاء الكائن بمحاذاة
مقر الأروقة الجزائرية، الذي حول مؤخرا إلى مساحة للانترنت، وتم جلب ستة
أعلام للدول الحليفة بما فيها العلم الفرنسي· وتكفل عمي محمد بحفظها في
منزله قبل يومين من موعد المسيرة الذي تقرر يوم الثلاثاء المصادف للثامن
ماي سنة 1945، وكان يوم سوق أسبوعي للمواشي والخضر· كما كلف الطيب دومي،
وكان يملك محلا للخياطة بشارع الريفالي، بصنع علم جزائري صغير وفق الشكل
والصورة التي وضعها له السيد سليمان بلة، والذي تكفل بحفظه بمنزله، فيما
تقدم السيد عبد القادر يعلى بطلب رسمي لرئيس دائرة سطيف، الفرنسي بيترلان،
والذي وافق على ذلك بشرط جعلها سلمية ومدنية”·
ويستطرد عمي محمد قائلا
”وجاء اليوم الموعود، حيث تجمع المئات من المواطنين أمام مسجد الشيخ رابح
بن مدور، المعروف حاليا بمسجد أبي ذر الغفاري، وقام المنظمون بتفتيش
المواطنين وتجريدهم من العصي والهراوات والأسلحة البيضاء المتمثلة أساسا
في خنجر البوسعادي؛ حيث احتفظ بها داخل المسجد، ليتم تقديم أطفال الكشافة
وبعض تلاميذ المدارس إلى مقدمة المسيرة، فيما تم تكليف السيد العيد شراقة
بحمل العلم الوطني نظرا لكونه أطول واحد ضمن المشاركين بالمسيرة· وانطلق
بعد ذلك الجمع من أمام المسجد المتواجد على بعد حوالي 100 متر من مقر
الولاية حاليا، نحو شارع قسنطينة، وبالضبط قرب المكان المسمى عين مزابي·
وهو معروف لحد الساعة بنفس الاسم· وكان أطفال الكشافة يرددون أناشيد كثيرة
منها ”حيوا الشمال الإفريقي” و”كشاف هيا طلق المحيا” و”من جبالنا””·
ثم
يعود عمي محمد إلى ذاكرته ويقول:”وحين وصولنا إلى مفترق الطرق بشارع
قسنطينة، وبالضبط بالقرب من مقهى مارتيناز، محل بي سي آر، حاليا، فاجأتنا
سيارة الشرطة القضائية من نوع ”سيتروان ” وعلى متنها خمسة أفراد يقودهم
المحافظ أوليفيري؛ حيث أغلقوا الطريق بعد أن تركوا الكشافة يمرون ليحاولوا
بعد ذلك نزع العلم من السيد شراقة الذي سقط أرضا وتناول بعده الشهيد سعال
الراية الوطنية ليدخل في عراك مع المحافظ الذي أخرج سلاحه الناري وأطلق
عليه الرصاص· وهنا بدأ الرصاص يطلق من كل الشرفات والمحلات التي يملكها
الفرنسيون والمعمرون· وقد أصبت أنا في رجلي اليمنى ليتم نقلي بواسطة سيارة
كان يملكها أحد الجزائريين نحو المستشفى؛ حيث كنت أول مصاب يصل، فتم نزع
الرصاصة من رجلي وخيط الجرح ثم حاولت العودة إلى منزلي، وفي الطريق صادفت
ثلاثة جزائريين منهالين على شيخ فرنسي كنت أعرفه ضربا فنزلت من السيارة
وخلصته منهم، ثم أوصلته إلى بيته، ودخلت بعد ذلك بيتي· غير أن أفراد
الشرطة القضائية قاموا باعتقالي بعد حوالي ساعتين واقتادوني إلى مقرهم تم
نقلت رفقة مجموعة كبيرة من إخواني إلى الثكنة العكسرية، مكان تواجد حظيرة
التسلية حاليا· وهناك مورس علينا أشد العذاب على أيدي رجال الدرك· وكان
معنا الكاتب كاتب ياسين، الذي كان طالبا بثانوية ”البارتيني”، القيرواني
حاليا، ليتم إطلاق سراحنا بعد حوالي ستة أشهر”·
الشيخ لكحل يروي لـ”الخبر” فصولا من الجريمة
”بقروا بطون النساء وحوّلوا جثث الأبرياء إلى رماد”
يقول الشيخ لكحل ”كنت رفقة
العديد من الشبان، وأنا ابن الـ 23 ربيعا، أعمل عند لافي، وهو أحد كبار
المعمّرين بهليوبوليس· وكان هذا الأخير قد استولى على ضيعة للجزائريين،
ضاحية قرية حمام برادع، وأقام بها فرنا لصنع الجير، كما أنشأ مطحنة للقمح،
معروفة اليوم بمطاحن مرمورة· ولما اشتدت التوقيفات في الأيام الموالية
ليوم الثامن ماي، اضطررت رفقة أخي صالح إلى الانقطاع عن العمل هروبا من
الموت· وبعد استفسار أحد الإيطاليين، وكان يدعى ياكونو، والدتنا عنا، في
أثناء مرورها بمحاذاة ”الفيرمة”، نصحها بأن تفرض علينا الهروب إلى حين
تهدأ آلة التقتيل· وأمام تصاعد موجة التقتيل داخل ”فيلاج هيليوبوليس”
بمشاركة إيطاليين مساجين عند المعمر لافي، فررنا إلى فيرمة ”شهابة”، ومنها
إلى ”لمحادبة”، بعد أن شحذنا سكاكيننا وشواقيرنا”·
قتل 14 امرأة في ليلة واحدة
بلغت
الوحشية بمجرمي الاحتلال، عندما عجزوا عن ملاحقة الرجال إلى الجبال
المجاورة لمنطقة بوقرقار، خارج مدينة هليوبوليس، السطو على بيوت معزولة
وقتل وبقر بطون ما لا يقل عن 14 امرأة في عشية واحدة، يقول الشيخ لكحل،
قبل أن يضيف ”وكان السفاح المعروف بـ”حمر زديرة”، الذي لم يسلم من بشطه
حتى أخوه لخضر، ومعه السفاح اشمول، صانع هذه المجزرة التي بقرت فيها
البطون”·
فجأة يتوقف الشيخ عن الحديث، وتحمر عيناه، تأخذه رجفة، ينهض
متكئا على عصاه قبل أن يهم بالقول ”الكحلة··، الكحلة··”، لم نفهم شيئا من
صرخته التي ألفها أهل هليوبوليس، حتى تقدم منه أحد باعة السجائر يهدئ من
روعه إلى أن استرجع وعيه، فهمنا بعدها بأن صيحته تعني الطائرات المقنبلة
لقرية حمام أولاد علي من ذات البلدة، ولبعض المداشر والدواوير·
لم يشف
السفاح أندري آشياري بميليشياته غليله من المواطنيين، رغم تحويل مسيرة
الشرف والحرية إلى سيول من الدماء داخل مدينة فالمة، فراح يجمع المساجين
والموقوفين من مناطق بلخير وهيليوبوليس وقلعة بوصبع وبومهرة أحمد، لينقلهم
ليلا على متن شاحنات لافي إلى كاف البومبة، الموجود في مدخل هليوبوليس
بمحاذاة وادي سيبوس، وإعدامهم جماعيا، قبل أن يلقي بجثثهم إلى أسفل الجبل·
وقد
عمد صناع الإبادة أول الأمر، إلى ترك الجثث متراكمة لترهيب السكان، ثم
راحوا يوارونها شيئا فشيئا بسواعد جزائرية· لقد كان العدد كبيرا جدا، يقول
الشيخ لكحل، ولا يمكن لأحد حصره في رقم معين، ”لكن أؤكد لكم بأن من أعدموا
بكاف البومبة يعدون بالمئات، ومن شنقوا بجسر وادي سيبوس المحاذي له كذلك،
وبمدخل فالمة، على مقربة من مقر مديرية الحماية المدنية اليوم، أيضا على
غرار خليفة قروي وبشكر لخميسي وطاوغي لحسن، وأسماء أخرى كثيرة لا
أذكرها··· واستمر التقتيل بهذه الطريقة الوحشية في كاف البومبة لأكثر من
أسبوعين”·
واد سيبوس شاهد على رماد الجثث
لما
علم المجرمون بقدوم لجنة تحقيق أوروبية لمعاينة المجازر، سارعوا إلى
المقابر الجماعية بكاف البومبة ليلا، وأخذوا بإخراج الجثث ونقلها على متن
شاحنات المعمر لويس لافي إلى” قمينة الجير” الكائنة بضيعة هذا الأخير،
ضاحية قرية حمام برادع، وتحت جنح الظلام، لتبدأ المحرقة·
ويذكر الشيخ
لكحل بأن لافي طلب من الجزائريين العمال عنده بإحضار الحطب ”ولم نكن ندري
في بداية الأمر بأنه لحرق إخواننا··” يتوقف قليلا ثم يواصل، وقد احمر وجهه
الشاحب واغرورقت عيناه بالدموع: ”كان الرماد الناتج عن حرق الجثث بفرن
الجير، ينقل عبر شاحنات للمعمر لافي، فيرمي على ضفاف وادي سيبوس ليلا،
لمحو آثار التقتيل والتنكيل الهمجي”·
أهلُها كبّدوا فرنسا خسائر فادحة
عين الكبيرة لم تكتف بالبكاء فقرّرت المقاومة
المصدر:
يجمع من عاشوا يوم 8 ماي 1945
بـعين الكبيرة أن الذي نقل خبر بداية الأحداث من سطيف هو المرحوم ضيافات
عمار، المدعو عمار العدواني، الذي جاء بسيارته التي وقع لها عطب في
العجلات تجاهلها السائق ليتمكن من الوصول إلى مدينة عين الكبيرة حيث نادى
بصوت مرتفع ”الله أكبر··” ويروي لهم ما حدث بمدينة سطيف ويخبرهم بمقتل
الحاكم والخليفة بدوار الضيافات· وهو الطريق المؤدي إلى المدينة·
وكان
ذلك على الساعة الثانية زوالا، فبادر السكان إلى مهاجمة مركز البريد
والمواصلات فقتلوا قابضه بيار صوبان وابنه وقطعوا الاتصال الخارجي،
لينتقلوا بعدها إلى مخزن الأسلحة الذي فتحه الحارس عمار بوفندورة وتمكنوا
من الاستيلاء على الأسلحة والذخيرة الحربية منها 75 بندقية وحوالي خمسة
صناديق للذخيرة·
بدأت مشادات عنيفة بين السكان والمستوطنين، تبادلوا
فيها طلقات النار مما أدى إلى سقوط 15 معمرا، وفي بعض الروايات 17 قتيلا
من بينهم المعمر الكبير فابر هنري الذي قتل مع حارسين عسكريين وموريل
أودلف أليكسي وكارمي شارل·· أما بقية المعمّرين فقد اختبأوا في خندق بدار
أحدهم وفكر الثائرون بعد معرفة المكان في الحصول على البنزين من مكتب
الحاكم لحرقهم إلا أن وصول الشاحنات العسكرية حال دون ذلك؛ حيث تأهب
المتظاهرون لمواجهتها فكانت النتيجة إصابة أحدهم وفي نفس الوقت وصل سرب من
الدبابات إلى مشارف المدينة إذ حاول ثلاثة مواطنين التصدي لها ليتمكن من
كانوا داخل المدينة من الفرار قبل أن تبدأ الدبابات في عملية القصف·
وفي
الوقت نفسه فر السكان إلى المناطق المجاورة قبل وصول النجدات العسكرية·
غير أن زوجة الحاكم وقوة عسكرية انتقلت إلى أولاد عدوان ”الشرشور” لتثأر
لزوجها، فأمرت بحرق دشرة بأكملها حيث قتل 17 شخصا، وبعد إدراك مقتل زوجها
بجهة أخرى بـ ”قرية الضيافات” انتقلت إليها مباشرة لترتكب نفس الجرائم·
وفي
اليوم الموالي، انتهجت فرنسا سياسة الترغيب والترهيب في حق السكان، ففي
بادئ الأمر اعتمدت على دور ”القياد” الذين رفعوا رايات بيضاء مطالبين
السكان بالاستسلام وتسليم المشاركين في الأحداث لتتوالى الاعتقالات
الواسعة للسكان الذين بقي معظمهم في حالة فرار حتى الاستقلال· وقامت
قواتها العسكرية البرية والجوية بما فيها اللفيف الأجنبي بتدمير القرى
والمداشر التي فر إليها سكان البلدة، وارتكبت مجازر رهيبة في حقهم ليستمر
الوضع على هذه الحال لأكثر من أسبوعين·
ري وغاليسو من ملتقى مجازر 8ماي بفالمة
”الجريمة قائمة مهما قلّلت فرنسا من عدد الضحايا”
أجمع السيد عبد الحميد مهري
والمؤرخ الفرنسي روني غاليسو، خلال أشغال الملتقى الدولي الخامس، الذي
افتتح أمس، بجامعة 08 ماي في فالمة، على أن مسألة الاختلاف في عدد قتلي
الوحشية والهمجية الفرنسية، لا يحجب قيام الجريمة، على أن النية والطريقة
التي استعملتها الإدارة والجيش الفرنسيان في مواجهة مظاهرات ماي 45 هي
”جريمة ضد الإنسانية”·
تعرض السيد عبد الحميد مهري أمس، لدى افتتاح
الملتقى الدولي حول مجازر 8ماي بفالمة، لأجواء الفشل السياسي والاجتماعي
الذي انتاب فرنسا قبل المجازر الدامية، والذي كان سببا في تشديد الخناق
على الوطنيين، وتوليد حالة من الفقر والحرمان والأمراض الفتاكة، مقدما
شهادته على مشاركته في جميع جثث الموتى من الأرصفة بمنطقة وادي الزناتي
ودفنها· وقال مهري بأن الأوضاع الاجتماعية المتردية أمدت الشعب بتجنيد غير
مسبوق، سيما أهالي الأرياف في حركة الوطنية ”ما دفع إلى تنظيم مظاهرات من
الوطنيين قررتها حركة أحباب البيان، ودعت إلى تعميمها على جميع المناطق
لتخفيف الضغط عن مناطق فالمة، سطيف وخراطة”· وأكد مهري حول الأحداث بوادي
الزناتي، بأن المظاهرة كانت سلمية، وأن بعض الوافدين من الأرياف المسلحين
أقنعوا بترك أسلحتهم مما جنّب المنطقة دماء كثيرة في ذلك اليوم· غير أن
الخديعة وقعت فيما بعد بقتل عزل بالمنطقة”·
ليخلص إلى انه ”مهما حاولت
فرنسا تقليص عدد القتلى خلال مجازر ماي، فإن الجريمة تظل قائمة”· أما
الفرنسي ”روني غاليسو” فركز على المسار الإجرامي لـ”أندري أشياري، الذي
كان نائب عامل العمالة بفالمة، أحد صانعي، الموت بوحشية خلال المجازر·
مفيدا بأن السفاح أشياري قام بعمليات إجرامية قبل ذلك، كما حدث بالعاصمة
سنة ,1942 والتي تعد إرهابا بالمفهوم المعاصر”· مضيفا أن المسار العائلي
له حافل بالجرائم من جهة أبيه، ليو أشياري اليهودي الأصل·
وخلص غاليسو
في مداخلته إلى تأكيد ما ذكره مهري بخصوص الرقم المتعلق بعدد القتلى·
مفندا رقم اليمين الفرنسي القائل بـ6000 إلى 12000ضحية جزائرية، وضاربا
مثالا ببعض المصادر المستقلة كـ”جاك بالانش” الذي أحصى ما لا يقل عن 30
الف· وهو الرقم الذي أثار جدلا داخل البرلمان الفرنسي آنذاك· وقال غاليسو
”مهما تم الاختلاف حول عدد القتلى، فإن الجريمة ضد الانسانية تظل
قائمة”·